فصل: تفسير الآيات رقم (5- 7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏المصدقين‏}‏ مَن قرأ بالتشديد فيهما فاسم فاعل، من‏:‏ تصدّق، أدغمت التاء في الصاد، ومَن قرأ بتخفيف الصاد فاسم فاعل صدّق‏.‏ و‏{‏أقرضوا‏}‏‏:‏ عطف على الصلة، أي‏:‏ إن الذين تصدّقوا وأقرضوا‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ المصدِّقين والمصدِّقات‏}‏ أي‏:‏ المتصدقين بأموالهم والمتصدقات أو‏:‏ المصدقين بالله ورسوله والمصدقات، ‏{‏وأقرضوا اللّهَ قرضاً حسناً‏}‏ وهو أن تتصدّق من كسبٍ طيبٍ، بقلب طيب، ‏{‏يُضاعف لهم‏}‏ بأضعاف كثيرة إلى سبعمائة، ‏{‏ولهم أجرٌ كريمٌ‏}‏ الجنة وما فيها‏.‏

وقد ورد في الصدقات أحاديث، منها‏:‏ أنها تدفع سبعين باباً من السوء، وتزيد البركة في العمر‏.‏ رُوي أن شابّاً وشابة دخلا على سليمان عليه السلام فعقد لهما النكاح، وخرجا من عنده مسرورين، وحضر ملك الموت، فقال‏:‏ لا تعجب من سرورهما، فقد أُمرت أن أقبض روح هذا الشاب بعد خمسة أيام، فجعل سليمانُ يراعي حالَ الشاب، حتى ذهبت ستة أيام، ثم خمسة أشهر، فعجب من ذلك، فدخل عليه ملك الموت، فسأله عن ذلك، فقال‏:‏ إني أُمرت أن أقبض روحه كما ذكرتُ لك، فلما خرج من عندك لقيه سائل، فدفع له درهماً، فدعا له بالبقاء، فأُمرت بتأخير الأمر عنه ببركة صدقته‏.‏ ه‏.‏ وانظر عند قوله‏:‏ ‏{‏يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏، ومثله قضية الرجل الذي آذى جيرانَه، فدعا موسى عليه السلام عليه، ثم تصدَّق صبيحة اليوم برغيف، فنزل الثعبان، فلقيته الصدقة فسقط ميتاً على حزمة حطبه‏.‏

‏{‏والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون‏}‏ المبالغون في التصديق، أو الصدق، وهو أولى؛ لأنّ وزن المبالغة لا يساغ من غير الثلاثي في الأكثر إلا نادراً، كمسّيك من أمسك‏.‏ ‏{‏و‏}‏ هم أيضاً ‏{‏الشهداءُ عند ربهم‏}‏ وظاهره‏:‏ أن كل مَن آمن بالله ورسله ينال درجة الصدّيقين، الذين درجتهم دون درجة الأنبياء، وفوق درجة الخواص، وأنَّ كل مَن آمن ينال درجة الشهداء، وليس كذلك، فينبغي حمل قوله‏:‏ ‏{‏آمَنوا‏}‏ على خصوص إيمان وكماله، وهم الذين لم يشكّوا في الرسل حين أخبَروهم، ولم يتوقفوا ساعة، أي‏:‏ سبقوا إلى الإيمان، واستشهدوا في سبيل الله‏.‏ وسيأتي في الإشارة حقيقة الصدّيق‏.‏ وقيل‏:‏ كل مَن آمن بالله ورسله مطلق الإيمان فهو صدّيق وشهيد، أي‏:‏ ملحق بهما، وإن لم يتساووا في النعيم، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِع اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيِنَ وَالصِّدِّيقِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏‏.‏

والحاصل على هذه العبارة‏:‏ الترغيب في الإيمان والحث عليه، وهو وارد في كلام العرب في مبالغة التشبيه، تقول‏:‏ فلان هو حاتم بعينه، إذا شابهه في الجود، ويؤيد هذا حديث البراء بن عازب‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مؤمنو أمتي شهداء» قال مجاهد‏:‏ ‏(‏كل مؤمن صدّيق وشهيد‏)‏، أي‏:‏ على ما تقدّم، وإنما خصّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكرَ الشهداء السبعة تشريفاً على رتب الشهداء غيرهم، ألا ترى أنَّ المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً بتشريف ينفرد به، وقال بعضهم‏:‏ معنى الشهداء هنا‏:‏ أنهم يشهدون على الأمم‏.‏

قال ابن عباس ومسروق والضحاك‏:‏ الكلام تام في قوله‏:‏ «الصدّيقون»، وقوله‏:‏ «الشهداء» استئناف كلام، أي‏:‏ والشهداء حاضرون عند ربهم، أو‏:‏ والشهداء ‏{‏لهم أجرهم ونورهم‏}‏ عند ربهم، قال أبو حيان‏:‏ والظاهر‏:‏ أن «الشهداء» مبتدأ، خبره ما بعده‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ الظاهر‏:‏ أنَّ الآية متصلة، فكل مؤمن حقيقي صدّيق وشهيد، أي‏:‏ يلحق بهم، وقوله‏:‏ ‏{‏لهم أجرهم ونورهم‏}‏ أي‏:‏ لهم أجر الصدّيقين ونورهم، على التشبيه، ولا يبلغ المشبَّه درجة المشبَّه به‏.‏ وإذا قيّدنا الإيمان بالسبق، فالمعنى لهم أجرهم كامل ونورهم تام، ويؤيد عدم التقييد‏:‏ ذكر ضده عقبه، كما هو عادة التنزيل، بقوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ إنَّ المصدّقين والمصدّقات، وهم الذين بذلوا مهجهم وأرواحهم في مرضاة الله- ومَن كان في الله تلفه كان على الله خَلَفَه- وأقرضوا الله قرضاً حسناً، أي‏:‏ قطعوا قلوبهم عن محبة ما سواه، وحصروه في حضرة الله، يُضاعف لهم أنوارهم وأسرارهم، ولهم أجر كريم، شهود الذات الأقدس، وهؤلاء هم الصدِّيقون المشار إليهم بقوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون‏}‏ فهذا الإيمان عند الصوفية مقيد، قال الورتجبي‏:‏ هم الذين شاهدوا الله بالله بنعت المعرفة والمحبة، وتبعوا رسولَه بنعت المحبة والمعرفة بشرفه وفضله، والانقياد بين يدي أمره ونهيه، فأولئك هم الصدّيقون؛ لأنهم معادن الإخلاص واليقين، وتصديق الله في قوله بعد أن شاهدوه مشاهدة الصديقية، التي لا اضطراب فيها من جهة معارضة النفس والشيطان، وهم شهداء الله المقتولون بسيوف محبته، مطروحون في بحر وصلته، يَحْيون بجماله، يَشهدون على وجودهم بفنائه في الله، وبفناء الكون في عظمة الله، وهم قوم يستشرفون على هموم الخلائق بنور الله، يشهدون لهم وعليهم؛ لِصدق الفراسة؛ لأنهم أمناء الله، خصَّهم الله بالصديقية والسعادة والولاية والخلافة‏.‏ ه‏.‏

وقال القشيري‏:‏ الصدّيق مَن استوى ظاهرُه وباطنُه، ويقال‏:‏ هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَق، لا يَنْزلُ إلى الرُّخَصِ، ولا يجنح إلى التأويلات، والشهداء‏:‏ الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القُربة، ونُورهم‏:‏ ما كحل الحق به بصائرهم من أنوار التوحيد‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏20‏)‏ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏اعْلَموا أنما الحياةُ الدنيا لَعِبٌ‏}‏ كلعب الصبيان، ‏{‏وَلَهوٌ‏}‏ كلهو الفتيان، ‏{‏وزِينَةٌ‏}‏ كزينة النسوان، ‏{‏وتفاخر بينكم‏}‏ كتفاخر الأقران، ‏{‏وتكاثرٌ‏}‏ كتكاثر الدهقان- أي الفلاحين- ‏{‏في الأموال والأولاد‏}‏ أي‏:‏ مباهاة بهما‏.‏ والتكاثر‏:‏ الاستكثار، والحاصل‏:‏ أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء، فضلاً عن الاطمئنان بها، وأنها مع ذلك سريعة الزوال، وشيكة الاضمحلال، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏كَمَثَل غيثٍ أعجَبَ الكفَّارَ‏}‏ أي‏:‏ الحُرّاث، من‏:‏ كَفَرَ الحبَ‏:‏ ستره، ويقال‏:‏ كفرت الغمامُ النجومَ‏:‏ سترتها، أي‏:‏ أعجب الزراع ‏{‏نباتُه‏}‏ أي‏:‏ النبات الحاصل منه، ‏{‏ثم يَهيجُ‏}‏ أي‏:‏ يجف بعد خضرته ونضارته، ‏{‏فتراه مُصْفراً‏}‏ بعد ما رأيته ناضراً مونِعاً، وإنما لم يقل‏:‏ ثم تراه؛ إيذاناً بأنّ اصفراره مقارن لجفافه‏.‏ ‏{‏ثم يكون حُطاماً‏}‏ متفتتاً متكسراً، شبَّه حالَ الدنيا وسرعة تقضّيها مع قلة جدواها بنباتٍ أنبته الغيث، فاستوى وقوي، وأعجب به حُرّاثه، أو‏:‏ الكفار الجاحدون لنعمة الله تعالى فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة، فهاج، واصفرّ وصار حطاماً‏.‏

وهذا المثل هو لمَن اشتغل بالدنيا، والجري عليها، وأمّا ما كان منها في طاعة الله، أو في الضرورات التي تُقيم الأولاد، وتُعين الطاعات، فلا يدخل في هذا المثل، وهذا مثال للإنسان ينشأ شابّاً قويّاً، حَسن المنظر والهيئة، ثم يأخذ في النقص والهرم، ثم يموت، ويضمحل أمره، وتصير الأموال لغيره‏.‏ قال القشيري‏:‏ الدنيا حقيرة، وأحقرُ منها قَدْراً‏:‏ طالبُها، وأقلُّ منها خَطَراً‏:‏ المُزاحِم فيها، فما هي إلاّ جيفة، وطلاب الجيفةِ ليس لهم خطر، وأخسُّهم مَن يبخل بها‏.‏ وهذه الدنيا المذمومة هي ما شَغَل العبد عن الآخرة، فكل ما شغله عن الآخرة فهي الدنيا‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ‏}‏ لمَن أعرض عن الله، ‏{‏ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ‏}‏ لمَن أقبل على الله، وزهد فيما سواه‏.‏ والحاصل‏:‏ أنّ الدنيا ليست إلاَّ محقراتٍ من الأمور، وهي اللعب، واللهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر، وأمّا الآخرة؛ فما هي إلا أمورٌ عِظام، وهي العذاب الشديد، والمغفرة، والرضوان من الله الحميد‏.‏ والكاف في «كَمَثَلِ» في محل رفع، خبر بعد خبر، ‏{‏وما الحياةُ الدنيا إِلا متاعُ الغُرور‏}‏ لمَن ركن إليها، واعتمد عليها، ومتاع الغرور‏:‏ هو الذي يظهر ما حسن منه، ويبطن ما قبح، يفعله مَن يغر الناس ويغشهم، وكذلك الدنيا تُظهر لطلابها حلاوةً ووَلُوعاً، وتزداد عليهم شيئاً فشيئاً، فينهمكون في حلاوة شهواتها وبهجتها، ويغفلون عن الاستعداد، والعمر يفنى من يدهم في البطالة، فهي تغرهم وتخدعهم حتى تسوقهم إلى الموت مفلسين‏.‏ قال ذو النون‏:‏ يا معشر المريدين؛ لا تطلبوا الدنيا، وإن طلبتموها فلا تحبوها، فإنّ الزاد منها، والمَقيل في غيرها‏.‏

ولمَّا حقَّر الدنيا، وصغّ أمرها، وعظّم أمر الآخرة، حَثَّ عبادَه على المسارعة إلى نيل ما وَعَد من ذلك، وهي المغفرة والرضوان، فقال‏:‏ ‏{‏سابِقوا‏}‏ بالأعمال الصالحة ‏{‏إِلى مغفرة من ربكم‏}‏ أو‏:‏ سارِعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار، ‏{‏وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض‏}‏ أي‏:‏ كعرض سبع سموات، وسبع أرضين، إذا مدت إحداها حَذْو الأخرى، وذَكَر العرض دون الطول؛ لأنّ كل ما له عرض وطول فعَرضه أقلّ من طوله، فإذا وصف عَرضه بالبسط عُرف أن طوله أبسط، وهذا تقريب لأفهام العرب، وإلاَّ فالجنة أعظم من ذلك مراراً، كيف لا والمؤمن الواحد يُعطي قدر الدنيا عشر مرات‏!‏ ‏{‏أُعِدَّتْ‏}‏ تلك الجنة ‏{‏للذين آمنوا بالله ورسله‏}‏ وهو دليل أنها مخلوقة، ‏{‏ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء‏}‏ وهم المؤمنون، وفيه دليل أنه

«لا يدخل الجنة أحدٌ بعمله» كما في الحديث‏:‏ ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏ وبذلك يؤتي من شاء ذلك الفضل، الذي لا غاية وراءه‏.‏

الإشارة‏:‏ قد شبّه بعضُ الحكماء الدنيا بسبعة أشياء، شبّهها بالماء المالح، يغرق ولا يروي، ويضر ولا ينفع، وشبهها بظل الغمام، يغر ويخذل، وشببها بالبرق الخاطف في سرعة الذهاب والإضرار، وبسحاب الصيف، يضر ولا ينفع، وبزهر الربيع، يغر بزهرته، ثم يصفر فتراه هَشيماً، بأحلام النائم، يرى السرورَ في منامه، فإذا استيقظ لم يجد في يديه شيئاً إلاّ الحسرة، وبالعسل المشوب بالسم الرعاف، يغر ويقتل‏.‏ ه‏.‏ قال حفيده‏:‏ فتأملت هذه الحروف سبعين سنة، ثم زِدتُ فيها حرفاً واحداً فشبهتها بالغول التي تهلك مَن أجابها، وتترك مَن أعرض عنها‏.‏ ه‏.‏ وفي كتاب قطب العارفين، لسيدي عبد الرحمن اللجائي، قال‏:‏ فأول درجة الذاهبين إلى الله تعالى‏:‏ بغض الدنيا، التي هي ظلمة القلوب، وحجاب لوائح الغيوب، والحاجزة بين المحب والمحبوب، فبقدر رفضها يستعد للسفر، ويصح للقلوب النظر، فإن كانت الدنيا من قلب العبد مرفوضة، حتى لا تعدل عنده جناح بعوضة، فقد وضع قدمه في أول درجة من درجات المريدين، فينظر العبد بعد ذلك ما قدّمت دنياه، ويقبل على أخراه‏.‏ ه‏.‏

وذكر القشيري في إشارة الآية‏:‏ أنها إشارة إلى أطوار النفس والقلب والروح والسر، فقال بعد كلام‏:‏ وأيضاً يُشير إلى تعب صِبا النفس الأمّارة بملاعب المخالفات الشرعية، والموافقات الطبيعية، وإلى لهو شاب القلب بالصفات القلبية، مثل الزهد، والورع، والتوكُّل والتقيُّيد بها، وإلى زينة كهل السر بالأحوال السرية، والمنازلات الغيبية، مثل الكشوفات والمشاهدات والمعاينات، وإلى تفاخر شيخ الروح بإنبات التجليات والتنزلات، وإلى تكاثر سر السر بالفناء عن ناسوتيته، والبقاء بلاهوتيته الجامع‏.‏ ه‏.‏ إلاّ أنه قدّم السر على الروح، والمعهود العكس، فانظره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏سابِقوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فيه إغراء على النهوض إلى الله، وسرعة السير إلى الحق تعالى، التنافس في السبق، كما قال الشاعر‏:‏

السباقَ السباقَ قولاً وفعلاً *** حَذَّر النفسَ حسرةَ المسبوق

حُكي عن أبي خالد القيرواني، وكان من العُبّاد، المجتهدين‏:‏ أنه رأى خيلاً يسابقَ بها، فتقدمها فَرَسان، ثم تقدم أحدهما الآخر، ثم جدّ الثاني حتى سبق الأول، فتخلّل أبو خالد، حتى وصلَ إلى الفرس السابق، فجعل يُقبّله، ويقول‏:‏ بارك الله فيك، صبرت فظفرت، ثم سقط مغشيّاً‏.‏ ه‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ دعا المريدين إلى مغفرته بنعت الإسراع، يعني في قوله‏:‏ ‏{‏سارِعوا‏}‏ ودعا المشتاقين إلى جماله بنعت الاشتياق، وقد دخل الكل في مظنة الخطاب؛ لأنّ الكل قد وقعوا في بحار الذنوب، حين لم يعرفوه حقّ معرفته، فدعاهم إلى التطهير برحمته من الغرور بأنهم عرفوه‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ دعاهم إلى التطهير من الاغترار بمعرفته، وهي لم تحصل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏22‏)‏ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏23‏)‏ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏‏:‏ نعت لمصيبة، أي‏:‏ كائنة في الأرض، و‏(‏في كتاب‏)‏‏:‏ حال‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض‏}‏ من الجدب وآفات الزروع والفواكه، ‏{‏ولا في أنفُسِكُم‏}‏ من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد ‏{‏إِلاَّ‏}‏ مكتوب ‏{‏في كتابٍ‏}‏ اللوح ‏{‏من قبل أن نبرأها‏}‏ أي‏:‏ مِن قبل أن تخلق الأنفس أو المصائب، ‏{‏إِنّ ذلك على الله يسير‏}‏ أي‏:‏ إن إثباتها في اللوح سهل على قدرته كلحظة، وكما كُتبت المصائب، كُتبت المسرات والمواهب، وقد يدلّ عليها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِكَيْلا تأسَوا‏}‏ أي‏:‏ أخبرناكم بذلك لِكيلا تحزنوا ‏{‏على ما فاتكم‏}‏ من الدنيا حزناً يقنطكم، ‏{‏ولا تفرحوا‏}‏ فرح المختال الفخور ‏{‏بما آتاكم‏}‏ من الدنيا وسعتها، ومن العافية وصحتها، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الكل مقدر، يفوت ما قدر فواته، ويأتي ما قدّر إتيانه، لا محالة، لا يعظم جزعه على ما فات، ولا فرحه بما هو آت، ومع هذا كل ما ينزل بالنفس من المصائب زيادة في درجاته، وتطهير من سيئاته، ففي صحيح مسلم‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما يُصيب المسلم من وَصَبٍ، ولا نَصَب، ولا سقم، ولا حَزَنٍ، حتى الهمَ يَهُمُّه، إلاَّ كفّر به من سيئاته» وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن‏:‏ إن قضى له بالسراء رضي وكان خيراً، وإن قضى له بالضراء ورضي كان خيراً له»، وقال أيضاً‏:‏ «ما من مسلم يُشاكُ بشوكةٍ فما فوقها، إلاَّ كُتبتْ له درجةٌ، ومُحيتْ عنه بها خَطيئةٌ»‏.‏

وليس أحد إلاَّ وهو يفرح بمنفعةٍ تُصيبه، ويحزن عند مضرةٍ تنزل به، لأنه طبع بشري، ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أوتي بغنيمة أو خير يقول‏:‏ ‏(‏اللهم إنا لا نستيطع إلاَّ أن نفرح بما آتيتنا‏)‏، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً، والحزن صبراً، وإنما يُذم مِن الحزن الجزع المنافي للصبر، ومن الفرح الأشر المُطغي المُلهي عن الشكر، والمؤدّي إلى الفخر، ‏{‏واللّهُ لا يُحب كلَّ مختال فخور‏}‏ فإنَّ مَن فرح بحظوظ الدنيا، وعظمت في نفسه، اختال وافتخر بها، لا محالة‏.‏ وفي تخصيص التنزيل الذم بالفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى‏.‏

ثم أبدل من «كل مختال» تفسيراً له فقال‏:‏ ‏{‏الذين يبخلون ويأمرون الناسَ بالبخل‏}‏ أي‏:‏ لا يُحب الذين يفرحون الفرحَ المُطغي إذا رُزقوا مالاً أو حظّاً من الدنيا، فلأجل فرحهم به عزّ في نفوسهم، فبخلوا به، وأَمروا غيرهم بإمساكه، ويحضُّونهم على البخل والادخار، ‏{‏ومَن يتولَ‏}‏ يُعرض عن الإنفاق، أو عن أوامر الله تعالى ونواهيه، ولم ينتهِ عما نهى عنه من الأسى على الفائت، والفرح بالآتي، ‏{‏فإِنَّ الله هو الغنيُّ الحميدُ‏}‏ أي‏:‏ غني عنه وعن أنفاقه، محمودٌ في ذاته، لا يضره إعراضُ مَن أعرض عن شكره، بالتقرُّب إليه بشيء من نعمه‏.‏

وفيه تهديد وإشعار بأنَّ الأمر بالإنفاق إنما هلو لمصحلة المنفق فقط‏.‏ وقرأ المدنيان وابن عامر بغير «هو» الذي يفيد الحصر، اكتفاء عنها بتعريف الجُزأين، مع تأكيد «إنّ»، وقرأ الباقون بزيادتها؛ للتنصيص على الحصر والتأكيد، وهو ضمير فصل عن البصريين، أي‏:‏ الفرق؛ لأنه يفرق بين الخبر والصفة، وعماد عند الكوفيين، ورابطة عند المنطقيين‏.‏

الإشارة‏:‏ ما أصاب من مصيبة في أرض البشرية، من غلبة الطبع، والميل إلى الحظوظ النفسانية، ولا في أنفسكم؛ ولا في باطن أنفسكم، مما يُصيب القلبَ من الأمراض، كالعجب والرياء والكبر والحسد، وغيرها، وما يُصيب الروح من الوقوف مع المقامات، أو الكرامات، أو الكشوفات، إلاَّ في كتاب سابق، وهو العلم القديم، والقضاء المحتوم، فمَن وافقته رياح القضاء نهض رغماً عن أنفه، ومَن انتكبته نكس على عقبيه، أو وقف عن سيره، فالرجوع إلى الله واجب في الحالتين، عبودية وأدباً، فعلنا ذلك لكيلا تأسَوا على ما فاتكم‏.‏ فمَن تحقّق بالعبودية لا يفوته شيء، ولا تفرحوا بما آتاكم مما شأنه يزول‏.‏ قال القشيري‏:‏ هذه صفة المتحررين من رِقِّ النفس، وقيمة الرجال إنما تتبين بتغيُّرهم، فمَن لم يتغير بما يَرِدُ عليه مما لا يريده من جفاءٍ أو مكروهٍ أو محبةٍ فهو كامل، ومَن لم يتغير بالمضار، ولا يَسُرُّه الوجد، كما لا يُحْزِنْه العَدَم، فهو سَيِّد وقته‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وهذه كانت سيرة الصحابة رضي الله عنهم كما قال كعب بن زهير في وصفهم‏:‏

لا يَفرحونَ إذا نالت رِماحُهُمُ *** قَوْماً وليسوا مجازيعاً إذا نِيلوا

ثم قال‏:‏ ويُقال‏:‏ إذا أردْتَ أن تعرفَ الرجلَ فاطلبْه عند الموارد، والتغيراتُ من علامات بقاء النفْس بأيّ وجهٍ كان‏.‏ ه‏.‏ وقال الورتجبي عن الواسطي‏:‏ العارف مستهلك في كُنه المعروف، فإذا حصل بمقام المعرفة لا يبقى عليه قصد فرح ولا أسى، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِكَيلا تأسوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وإليه أشار في الحِكَم بقوله‏:‏ «ما تجده القلوب من الأحزان فلِما منعت من الشهود والعيان»، وقال ابن الفارض، في شان الخمرة إذا دخلت القلب‏:‏

وإن خطرتْ يوماً على خاطر امرىءٍ *** أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ

أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام‏:‏ «يا داود، قُل للصدِّيقين‏:‏ بي فليفرحوا، وبذكري فليتنعموا» واحتجّ الغزالي بهذه الآية على أن الرزق لا يزيد بالطلب، ولا ينقص بتركه، ولو كان يزيد بالطلب وينقص بالترك لكان للأسى والفرح موضع، إذ هو قصَّر وتوانى حتى فاته، وشمَّر وجدّ حتى حصَّله، وقد قال صلى الله عليه وسلم للسائل‏:‏ «ما لك، لو لم تأتها لأتتك»، ثم أورد كون الثواب والعقاب مكتوبيْن، ويزيد بالطلب وينقص بتركه، ثم فرّق بأنّ المكتوب قسمان‏:‏ قسم مكتوب مطلقاً، من غير شرط وتعليقٍ بفعل العبد، وهو الأرزاق والآجال، وقسم معلّق بفعل العبد، وهو الثواب والعقاب‏.‏

ه‏.‏

قلت‏:‏ في تفريقه نظر، والحق‏:‏ التفصيل في النظر، فمَن نظر لعالم الحكمة، وهو عالم التشريع، وجدهما معاً مقيدين بفعل العبد، أمّا الرزق الحسي فيأتي بسبب الفعل، إن توجه للأسباب ونقص من التقوى، وبغير سبب إن تجرّد من الأسباب، وحصل مقام التقوى؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ الآية، فالمُتَّقِي المنقطع إلى الله ناب اللّهُ عنه في الفعل، ومَن نظر لعالم القدرة، وهو عالم الحقيقة، وجد الفعل كله من الله بلا واسطة ‏{‏لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون‏}‏ وكذلك أمر الرزق المعنوي، وهو الطاعة واليقين، التي يتربت عليهما الثواب والعقاب، فمَن نظر لعالَم الحكمة وجده مقيداً بسبب العبد واجتهاده، وبها جاءت الشريعة، ومَن نظر لعالَم القدرة امتحى العبد ووجوده، فضلاً عن فعله وتسبُّبه، فتأمّله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله لا يُحب كل مختال فخور‏}‏ قال القشيري‏:‏ لأنّ الاختيال من بقاء النفس، والفخر رؤية خطر ما به يفتخر‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏الذين يبخلون‏}‏ بما عندهم من الأرزاق الحسية والمعنوية، والبخل بها علامة الفرح بها، والوقوف معها، وأمّا مَن وصل إلى شهود مُعطيهما ومُجريها فلا يبخل بشيء؛ لغناه بالله عن كل شيء، ومَن يتولّ عن هذا كله، فإِنَّ الله الغني عنه وعن جميع الخلق، المحمود قبل وجود الخلق‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا رسلنا‏}‏ من البشر ‏{‏بالبينات‏}‏ الحُجج والمعجزات، أو‏:‏ لقد أرسلنا الملائكة إلى الإنبياء، والأنبياء إلى الأمم، ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا معهم الكتابَ‏}‏ أي‏:‏ جنس الكتاب الشامل للكل؛ لأنّ الكتاب من شأنه أن ينزل مع الملائكة، ويُجاب‏:‏ بأن التقدير‏:‏ وأنزلنا عليه الكتاب مصحوباً معهم لا تُفارقهم أحكامه، ‏{‏و‏}‏ أنزلنا ‏{‏الميزانَ‏}‏ أي‏:‏ الشرع؛ لأنه عِيار الأحكام الصحيحة والفاسدة، ‏{‏ليقوم الناسُ بالقسط‏}‏ أي‏:‏ العدل، وقيل المراد‏:‏ الميزان الحسي‏.‏ رُوي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان، فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال‏:‏ «مُرْ قومَك يَزِنوا به»‏.‏ ‏{‏وأنزلنا الحديدَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ «نزل آدم من الجنة ومعه آلة الحدادين، خمسة أشياء‏:‏ السندان، والكَلْبتانِ، والمِيقَعَةُ، والمِطرقة، والإبرة»‏.‏ أو‏:‏ ‏{‏أنزلنا الحديد‏}‏ أخرجناه من المعادن، والمعادن تتكون من الماء النازل في الأرض، فينعقد في عروق المعادن، وقيل‏:‏ المراد به السلاح‏.‏

وحاصل مضمن الآية‏:‏ أرسلنا الرسلَ وأنزلنا الكتابَ، فمَن تبع طوعاً نجا، ومَن أعرض فقد أنزلنا الحديد يُحارب به حتى يستقيم كرهاً‏.‏ ‏{‏فيه بأس شديد‏}‏ أي‏:‏ قوة وشدة يتمنّع بها ويحارب، ‏{‏ومنافعُ للناس‏}‏ يستعملونه في أدواتهم، فلا تجد صنعة تستغني عن الحديد، ‏{‏وليعلم اللّهُ‏}‏ علم ظهور ‏{‏مَن ينصُرُه ورسُلَه‏}‏ باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين، ‏{‏بالغيبِ‏}‏ غائباً عنهم في مقام الإيمان بالغيب، ‏{‏إِنَّ الله قويٌّ عزيزٌ‏}‏ فيدفع بقوته مَن يُعرض عن ملته، وينصر بعزته مَن ينصر دينه، فيقوى جأشه على الثبوت في مداحض الحرب‏.‏

قال النسفي‏:‏ والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة‏:‏ أنّ الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يُبين سبيل المراشد والعهود، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، ويأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن البغي والطغيان، والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة بها يقع التعامل، ويحصل بها التساوي والتعادل، وهي الميزان‏.‏ ومن المعلوم‏:‏ أنَّ الكتاب الجامع للأوامر الإلهية، والآلة الموضوعة للتعامل بالتسوية، إنما يُحافظ العوامّ على اتباعها بالسيف، الذي هو حجة الله على مَن جحد وعَنَد، ونزع من صفقة الجماعة اليد، وهو الحديد، الذي وصف بالبأس الشديد‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ولقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم‏}‏ خُصّا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام ‏{‏وجعلنا في ذريتهما‏}‏ أولادهما ‏{‏النبوةَ‏}‏ الوحي ‏{‏والكتابَ‏}‏ جنس الكتاب‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ «الخطّ بالقلم»‏.‏ يقال‏:‏ كتب كتاباً وكتابة‏.‏ ‏{‏فمنهم‏}‏ من الذرية، أو‏:‏ مِن المرسَل إليهم، المدلول عليه من الإرسال، ‏{‏مُهتدٍ‏}‏ إلى الحق، ‏{‏وكثيرٌ منهم فاسقون‏}‏ خارجون عن الطريق المستقيم، والعدول عن سبيل المقابلة للمبالغة في الذم، والإيذان بكثرة الضلاّل والفسّاق‏.‏

‏{‏ثم قَفِّينا على آثارهم‏}‏ أي‏:‏ نوح وإبراهيم، ومَن مضى من الأنبياء، أو‏:‏ مَن عاصروهم من الرسل، ‏{‏برسلنا وقَفِّينا بعيسى ابن مريم‏}‏ أي‏:‏ أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم‏.‏

والتقفية‏:‏ من القفا، كأنّ كل واحد جاء في قفا صاحبه من ورائه، ‏{‏وآتيناه‏}‏ أي‏:‏ عيسى ‏{‏الإِنجيلَ‏}‏ وفيه لغتان كسر الهمزة وفتحه، وهو عجمي لا يلزم فيه أبنية العرب، ‏{‏وجعلنا في قلوب الذين ابتَعوه‏}‏ وهم النصارى ‏{‏رأفةً‏}‏ مودةً وليناً، ‏{‏ورحمةً‏}‏ تعطُّفاً على إخوانهم، وهذا ظاهر في النصارى دون اليهود، فأتباع عيسى أولاً كانوا الحواريين، وطائفة من اليهود، وكفرت به الطائفة الباقية، فالنصارى أشياع الحواريين، فما زالت الرحمة فيهم، وأما اليهود فقلوبهم أقسى من الحجر‏.‏ ‏{‏ورهبانيةً ابتدعوها‏}‏ من باب الاشتغال، أي‏:‏ وابتدعوا رهبانية ابتدعوها من عند أنفسهم‏.‏ أو‏:‏ معطوفة على ما قبلها، أي‏:‏ وجعلنا في قلوبهم رهبانيةً مبتدَعةً مِن عندهم، أي‏:‏ وقفيناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهابنية واستحداثها، وهي‏:‏ المبالغة في الرهبة بالعبادة، والانقطاع عن الناس، وهي منسوبة إلى الرَهْبان، وهو الخائف، فعلان من‏:‏ رَهَبَ، كخشيان، من خشي‏.‏ وقرئ بضم الراء، نسبة إلى الرُّهْبان جمع راهب، كراكب وركبان‏.‏ وسبب ابتداعهم إياها‏:‏ أنَّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السلام، فقاتلوهم ثلاث مرات، فقُتل المؤمنون حتى لم يبقَ منهم إلاَّ القليل، فخافوا أن يفتونهم في دينهم، فاختاروا الرهبانية في قُلَل الجبال، فارين بدينهم، مختلِّصين أنفسهم‏.‏ انظر الثعلبي فقد نقله حديثاً‏.‏

‏{‏ما كتبناها عليهم‏}‏ أي‏:‏ لم نفرضها عليهم، ولكن نذروها على أنفسهم‏.‏ ما فعلوا ذلك ‏{‏إِلاَّ ابتغاءَ رِضْوانِ الله‏}‏ عليهم، قيل‏:‏ الاستثناء منقطع، أي‏:‏ ما كتبناها عليهم لكن فعلوها ابتغاء رضوان الله، وقيل‏:‏ متصل من أعم الأحوال، أي‏:‏ ما كتبناها عليهم في حال من الأحوال إلاّ ابتغاء الرضوان، ‏{‏فما رَعَوْها حقَّ رعايتها‏}‏ كما يجب على الناذر رعاية نذره؛ لأنه عهد مع الله، لا يحلّ نكثه، وقيل‏:‏ في حق مَن أدرك البعثة فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أي‏:‏ فما رَعَوا تلك الرهبانية حقها، حيث لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآتينا الذين آمنوا منهم‏}‏ إيماناً صحيحاً، وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏أجرَهم‏}‏ ما يخصهم من الأجر، ‏{‏وكثيرٌ منهم فاسقون‏}‏ خارجون عن حد الاتباع، كافرون بالله ورسوله‏.‏

الإشارة‏:‏ كل زمان يبعث اللّهُ رُسلاً يدعون إلى الله، وهم الأولياء العارفون، خلفاء الرسل، بالبينات الواضحة على ولايتهم، لمَن سبقت له العناية، وأنزلنا معهم الكتاب، أي‏:‏ الواردات الإلهية، والميزان، وهو إلهام اصطلاح التربية المناسبة لذلك الزمان، فيزن بها أحوالَ المريدين، ويعطي كل واحد ما يناسبه من الأوراد، والأعمال، والأحوال، ليقوم الناس في أنفسهم بالقسط، من غير إفراط ولا تفريط، وأنزلنا الحديد، إشارة إلى الجذب، الذي في قلوب العارفين، فيه بأس شديد، يذهب العقول، ومنافع للناس، لأنه هو النور الذي يمشي به الوليّ في الناس، إذ بذلك الجذب يجذب قلوبَ المريدين، ومَن لم يكن له ذلك الجذب، فلا يصلح للتربية؛ لأنه ظاهري محض، ولا بُد لهذا الجذب أن يصحبه سلوك في الظاهر، وإلاَّ فلا يصلح أيضاً للتربية كالمصطلمين‏.‏

خصّ هذا النور بأوليائه لِيعلم مَن ينصُر دينَه وسنةَ رسوله منهم، بالغيب، أي‏:‏ مع غيب المشيئة عنهم، فهم يجتهدون في نصر الدين، وينظرون ما يفعل الله، وما سبق به القدر، وأمّا أمر الربوبية فهم في مقام العيان منها، إنَّ الله قوي، يُقوي قلوب المتوجهين، عزيز يُعز من يجتهد في نصر الدين‏.‏

ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم، خصّ هذين الرسولين؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان في غاية القوة والشدة، وإبراهيم كان في غاية الليونة، وهكذا أولياء كل زمان، بعضهم يميل للقوة جدّاً، وبعضهم يميل للرطوبة، فإذا أراد الله أن يُظهر طريقةً أ مِلةً جعل فيها هذين الضدين، من الأولياء مَنْ يميل لليونة ومَنْ يميل للقوة، ليعتدل الأمر في الوجود، فإن انفرد صاحبُ القوة احترق الوجود، أو غرق، كما جرى في زمان نوح عليه السلام، حين انفرد بالقوة، وإن انفرد صاحب الليونة وقعت برودة في الدين، كما وقع في زمن إبراهيم عليه السلام إذ لم تكن أمته كثيرة، ولمّا اجتمعا في زمان موسى كثرت أتباعه؛ لأنَّ موسى عليه السلام كان قوياً، وهارون كان ليناً، فكثرت أتباعه‏.‏ وعظمت هذه المة المحمدية لدوام اجتماعهما في أمته، فكان عليه الصلاة والسلام سهلاً ليناً، وكان في مقابلته عمر من وزرائه قوياً صلباً في دين الله، ثم استخلف أبو بكر على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم فقابله عمر رضي الله عنه، فلما استخلف عمر ولان؛ قابله عليّ رضي الله عنه، وهكذا كل طائفة كثرت أتباعها تجد فيها هذين الضدين‏.‏ سبحان المدبِّر الحكيم، الجامع للأضداد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً‏}‏ هي صفة المريدين المتوجهين، ورهبانيةُ هذه الأمة‏:‏ المساجد والزوايا، كما في الحديث‏.‏ وليس من شأن العارفين الانفراد في الجبال والفيافي، إنما شأنهم خلط الناس وإرشادهم‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ وصف الله تعالى هنا أهل السنة وأهل البدعة، أهل السنة‏:‏ أهل الرحمة والرأفة، وأهل البدعة‏:‏ أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم‏.‏ وصف الله قلوب المتمسكين بسنّة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسله، فتلك المودة من مودة الله إياهم، وتلك الرحمة من رحمة الله عليهم، حيث اختارهم في الأزل؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، وقادة الأمة، ووصف المتكلفين الذي ابتدعوا رهبانية من أنفسهم، مثل ترك أكل اللحم، والجلوس في الزوايا للأربعين، عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات، لأجل قبول العامة، فإنهم ليسوا على الطريق المستقيم، بل هم يتبعون شياطينهم، الذي غوتهم في دينهم، بل زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخافات، وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، ورضوان الله هو في الشريعة والطريقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم‏.‏ ه‏.‏ وقوله‏:‏ «الأربعين» كان العبّاد ينذرون خُلوة أربعين يوماً، فيتخلّفون عن الجمعة والجماعة، والأمر كما قيل‏:‏ إذا ثبت عدالة المرء فليترك وما فعل، فهو أسلم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا‏}‏ بالرسل المتقدمة ‏{‏اتقوا اللهَ‏}‏ أي‏:‏ خافوه ‏{‏وآمِنوا برسوله‏}‏ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المذكور في كتابكم، ‏{‏يُؤتِكم كِفْلَين‏}‏ نصيبين ‏{‏من رحمته‏}‏ لإيمانكم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبمَن قبله، لكن لا بمعنى أن شريعتهم باقية بعد البعثة، بل على أنها كانت حقاً قبل النسخ، وإنما أعطى مَن آمن بنبينا كفلين مع بطلان شريعته، لصعوبة الخروج عن الإلف والعادة، ‏{‏ويجعل لكم نوراً تمشون به‏}‏ يوم القيامة، كما سبق للمؤمنين في قوله‏:‏ ‏{‏يَسْعَى نُورُهُم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 12‏]‏ الخ، ‏{‏ويغفرْ لكم‏}‏ ما أسلفتم من الكفر والمعاصي، ‏{‏واللهُ غفور رحيم‏}‏ ويؤيد هذا التأويل وأنَّ الخطاب لأهل الكتاب‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين‏:‏ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب للمؤمنين، أي‏:‏ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله فيما نهاكم عنه، ودُوموا على إيمانكم، يؤتكم كفلين‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، ويؤيد هذا حديث الصحيحين‏:‏ «مَثَلُ أهل الكتاب قبلنا كمثل رجل استأجر أُجراء يعملون إلى الليل على قيراط قيراط، فعملت اليهود إلى نصف النهار، ثم عجزوا، ثم عملت النصارى إلى العصر، فعجزوا، ثم عملتم إلى الليل، فاستوفيتم أجر الفريقين، فقيل‏:‏ ما شأن هؤلاء أقل عملاً وأعظم أجراً‏؟‏ فقال‏:‏ هي ظلمتكم من حقكم شيئاً‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ ذلك فضلي أوتيه مَن أشاء»‏.‏

قيل‏:‏ لمّا نزل قوله‏:‏ ‏{‏أولئك يُؤتون أجرهم مرتين بما صبروا‏}‏ افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزل‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ ولمّا نزلت هذه الآية الكريمة في هذا الوعد الكريم للمؤمنين حسدتهم اليهود، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لئلا يعلم أهل الكتاب ألاَّ يقدرون على شيء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، أي‏:‏ إنما خصصت المسلمين بذلك ليعلم أهل الكتاب أنه، أي‏:‏ الأمر والشأن لا يملكون فضل الله، ولا يدخل تحت قدرتهم، ف «إن» مخففة، واسمها‏:‏ ضمير الشأن، و‏(‏لا‏)‏ مزيدة، أي‏:‏ ليعلم أهل الكتاب أنه لا يقدرون ‏{‏على شيءٍ من فضل الله‏}‏ ولا يملكونه، حتى يخصوا به مَن شاؤوا، ‏{‏و‏}‏ ليعلموا أيضاً ‏{‏أنَّ الفضلَ بيد الله‏}‏ في ملكه وتصرفه، ‏{‏يُؤتيه من يشاء‏}‏ من عباده ‏{‏واللّهُ ذو الفضل العظيم‏}‏ لا نهاية لفضله‏.‏ وعلى أنَّ الخطاب لأهل الكتاب يكون قوله‏:‏ ‏{‏لئلا يعلم أهل الكتاب‏}‏ أي‏:‏ مَن لم يؤمن منهم، فيكون راجعاً لمضمون الجملة الطلبية، المتضمنة لمعنى الشرط، أي‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ بموسى وعيسى ‏{‏اتقوا الله وآمنوا برسوله‏}‏ فإن فعلتم ذلك ‏{‏يُؤتكم كفلين من رحمته‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، وإنما جَعلتُ هذا لمَن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا به أنهم لا يملكون من فضل الله شيئاً، وأنَّ الفضل بيد الله‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

الإشارة‏:‏ تنسحب هذه الآية من طريق الإشارة على مَن كانت في أسلافه خصوصية ولاية، أو صلاح، أو شرف علم أو رئاسة مَّا، ثم ظهرت التربية الحقيقية في غير أسلافه، فإن حطّ رأسه وصَدّق بالخصوصية لغيره أعطي أجره مرتين، وعظم قدره في مقام الولاية، وإنما كانت تنتقل دولة الولاية؛ ليعلم أهلُ الخصوصية المتقدمة أنّ الفضل بيد الله، يُؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم‏.‏ والله الموفق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه، وسلّم‏.‏

سورة المجادلة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قد سَمِعَ اللّهُ قولَ التي تُجادِلُك‏}‏ وهي خولة، ‏{‏في زوجها‏}‏ أوس، أي‏:‏ تُراجعك الكلام في شانه، وفيما صدر منه صدر منه في حقها مِن الظِّهار، أو تسألك وتستفيتك‏.‏ وقال الكواشي‏:‏ «قد سمع» أي‏:‏ عَلِمَ وأجاب قولها، أي‏:‏ دعاءها‏.‏ وفي «قد» هنا معنى التوقُّ؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرأة كانا يتوقعان أن يُنزل اللّهُ في مجادلتهما ما يفرج الله به عنهما‏.‏ ه‏.‏ وقال الفخر‏:‏ هذه الواقعة تدل على أنّ مَن انقطع رجاؤه من الخلق، ولم يبقَ له في مُهمه أحدٌ إلاَّ الخالق، كفاه الله ذلك المُهم‏.‏ وقال القشيري‏:‏ لمّا صدقت في شكواها إلى الله، وأيِسَتْ مِن كشف ضُرِّها من غير الله، أنزل الله في شأنها‏:‏ ‏{‏قد سمع الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ويقال‏:‏ صارت قصتها فرجةً ورحمةً للمؤمنين إلى يوم القيامة، في قضية الظهار، ليعلم العالمون أنه لا يخسر على الله أحد‏.‏ ه‏.‏

ولمّا نزلت السورة بإثر الشكوى، قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ «ما أسمع الله» تعجُّباً من سرعة نزولها‏.‏

‏{‏وتشتكي إلى اللهِ‏}‏ أي‏:‏ تتضرع إليه، وتُظهر ما بها من الكرب، ‏{‏واللهُ يسمع تحاورَكما‏}‏ مراجعتكما الكلام، من‏:‏ حاور إذا رجع‏.‏ وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع، حسب استمرار التحاور وتجدُّده، وفي نظمها في سلك الخطاب تشريفٌ لها‏.‏ والجملة استئناف، جار مجرى التعليل لِمَا قبله، فإنّ إلحافَها في المسألة، ومبالغتها في التضرُّع إلى الله تعالى، ومدافعته صلى الله عليه وسلم إياها، منبئٌ عن التوقف وترقُّب الوحي، وعلمه تعالى بحالهما من دواعي الإجابة، أي‏:‏ قد سمع قول المرأة وأجاب طلبتها؛ لأنه يسمع تحاوركما‏.‏ وقيل‏:‏ هو حال، وهو بعيد‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله سميع بصير‏}‏ تعليل لِما قبله، أي‏:‏ مُبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات، ومِن قضيته‏:‏ أن يسمع تحاوركما، ويرى ما يقارنه من الهيئات، التي مِن جملتها‏:‏ رفع رأسها إلى السماء، وإثارة التضرُّع، وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة، وتعليل الحكم بوصف الألوهية، وتأكيد الجملتين‏.‏

الإشارة‏:‏ قد سمع الله قولَ الروح، التي تُجادل في شأن القلب؛ لأنه مقرها ومسكنها، إن صلح صلحت، وإن فسد بحب الدنيا ومتابعة الهوى، فسدت، فهي تُجادل رسولَ الإلهام وتشتكي إلى الله من القلب الفاسد، والله يسمع تحاورهما وتضرعَها إن صدقت في طلب الحق، فيُجيب دعاءها، ويُقيض لها طبيباً يُعالجه، حتى ترجع لأصلها منه، إنّ الله سميعٌ بصير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏3‏)‏ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَظَّهَّرُونَ‏}‏ وأصله‏:‏ يتظهرون، فأدمغت التاء في الظاء، وقرأ عاصم‏:‏ بضم الياء وتخفيف الظاء، مضارع ظاهر؛ لأنّ كل واحد يباعد صاحبه، وقرأ ابن عامر والأخوان وأبو جعفر وخلف بفتح الياء وشد الظاء بالمد، مضارع «تظاهر»، والحاصل في فعل الظهار ثلاث لغات‏:‏ ظاهر وتظاهر وتظهر، مأخذة من الظهر؛ لأنه يُشَبِّه امرأته بظهر أُمه، ولا مفهوم للظهر، بل كل جزء منها مثل الظهر‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ توبيخ للعرب، لأنه كان من أيْمان الجاهلية خاصة، دون سائر الأمم، ‏{‏مِن نسائهم‏}‏ من زوجاتهم، ‏{‏ما هن أمهاتِهم‏}‏‏:‏ خبر الموصول، أي‏:‏ ليسوا بأمهاتهم حقيقة، فهو كذب محض، ‏{‏إِنْ أمهاتُهم‏}‏ حقيقة ‏{‏إِلاّ اللائي وَلَدنَهُمْ‏}‏ مِن بطونهن، فلا تشبّه بهن في الحرمة إلاّ مَن ألحقها الشرع بهن من المرضعات وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخلن بذلك في حكم الأمهات، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة‏.‏ ‏{‏وزُوراً‏}‏ كذباً باطلاً، منحرفاً عن الحق، ‏{‏وإنّ الله لعفوٌّ غفور‏}‏ لما سلف منهم‏.‏

ثم ذَكَر الحُكم بعد بيان إنكاره، فقال‏:‏ ‏{‏والذين يَظَّهرون مِن نسائهم ثم يعودون لِما قالوا‏}‏ أي‏:‏ والذين يقولون ذلك القول المُنكَر، ثم يعودون إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي ورفع التضرُّر، أو‏:‏ لِنقيض ما قالوا‏:‏ قال ابن جزي‏:‏ في معنى العود ستة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ إيقاع الظِّهار في الإسلام، فالمعنى أنهم كانوا يُظاهرون في الجاهلية، فإذا فعلوه في الإسلام فذلك عود إليه، هذا قول ابن قتيبة، فتجب الكفارة عنده بنفس الظَّهار، بخلاف أقوال غيره، فإنَّ الكفارة لا تجب إلاّ بالظهار والعود معاً‏.‏ القول الثاني‏:‏ إنّ العود هو وطء الزوجة، رُوي ذلك عن مالك، فلا تجب الكفارة على هذا حتى يطأ، فإذا وطئها وجبت عليه الكفارة، أمسك الزوجةَ أو طلّقها، أو ماتت‏.‏ الثالث‏:‏ إنَّ العَوْد هو العزم على الوطء، ورُوي هذا أيضاً عن مالك، فإذا عزم على الوطء وجبت الكفارة، أمسك، أو طلَّق، أو ماتت‏.‏ الرابع‏:‏ إن العود هو العزم على الوطء والإمساك، وهذا أصح الروايات عن مالك‏.‏ الخامس‏:‏ إنه العزم على الإمساك خاصة، وهذا مذهب الشافعي، فإذا ظاهر ولم يُطَلَّقها بعد الظَّهار لزمته الكفارة‏.‏ السادس‏:‏ إنه تكرار الظهار مرة أخرى، وهذا مذهب الظاهرية، وهو ضعيف، لأنهم لا يرون الظَّهار موجباً حكماً في أول مرة، وإنما يُوجبه في الثانية، وإنما نزلت فيما ظاهر أول مرة، فذلك يرد عليهم، ويختلف معنى «لِما قالوه» باختلاف هذه الأقوال، فالمعنى‏:‏ يعودون للوطء الذي حرَّموه، أو للعزم عليه، أو للإمساك الذي تركوه، أو للعزم عليه‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فتحريرُ رقبةٍ‏}‏ أي‏:‏ فتداركه، أو فعليه، أو فالواجب تحرير رقبة‏.‏ واشترط مالك والشافعي أن تكون مؤمنة، حملاً للمُطْلَق على المقيد؛ لأنه قيّدها في القتل بالإيمان، والفاء للسببية، ومِن فوائدها‏:‏ الدلالة على تكرُّر وجوب التحرير بتكرُّر الظهار‏.‏

‏{‏مِن قبل أن يتماسا‏}‏ أي‏:‏ المظاهِر والمظاهَر منها، ومذهب مالك والجمهور‏:‏ أن المسّ هنا يُراد به الوطء، وما دونه من اللمس والقُبلة، فلا يجوز للمظاهِر أن يفعل شيئاً من ذلك حتى يُكفِّر، فإن فعل شيئاً من ذلك تاب ولا يعود‏.‏ وقال الحسن والثوري‏:‏ أراد الوطء خاصة، فأباحا ما دونه من قبل الكفارة‏.‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ الحُكم ‏{‏تُوعظون به‏}‏ لأنَّ الحُكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية، فيجب أن تتعظوا بهذا الحُكم حتى لا تعودوا إلى الظهار، وتخافوا عقابَ الله عليه، ‏{‏واللهُ بما تعملون خبيرٌ‏}‏ مُطَّلِع على ما ظهر مِن أعمالكم، التي مِن جملتها الظاهر‏.‏

‏{‏فمن لم يجد‏}‏ الرقبة ‏{‏فصيامُ شهرين‏}‏ أي‏:‏ فعليه صيام شهرين ‏{‏مُتتابعين مِن قبل أن يتماسا‏}‏ فإنْ أفسده باختياره من أوله باتفاق، وإن أفسده بعذر، كمرض أو نسيان، فقال مالك‏:‏ يبني على ما كان معه، في رواية عنه، وقال أبو حنيفة‏:‏ يبتدئ، ورُوي القولان عن الشافعي‏.‏ ‏{‏فمَن لا يستطعْ‏}‏ الصيام ‏{‏فإِطعام ستين مسكيناً‏}‏ بمُدّ هشام على مذهب مالك‏.‏ واختلف في قدره، فقيل‏:‏ إنه مدان غير ثلث بمُد النبي صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ إنه مُد وثلث، وقيل‏:‏ إنه مُدان، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي وابن القصار‏:‏ يُطعم مُدّاً بمُد النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين، ولا يجزئه إلاّ كمالُ الستين، فإنْ أطعم مسكيناً واحداً ستين يوماً لم يجزه عند مالك والشافعي، خلافاً لأبي حنيفة، وكذلك إن أطعم ثلاثين مرتين، والطعام يكون من غالب قوت البلد‏.‏

وذكر الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏من قبل أن يتماسا‏}‏ في العتق والصوم، ولم يذكره في الإطعام، فاختلف العلماءُ في ذلك، فَحَمل مالك الإطعامَ على ما قبله، ورأى أنه لا يكون إلاّ قبل المسيس، وجعل ذلك مِن المُطْلَق الذي يُحمل على المقَيد‏.‏ وقال ابو حنيفة‏:‏ يجوز للمظاهِر إذا كان من أهل الإطعام أن يطأ قبل الكفارة؛ لأن الله لم ينص في الإطعام أنه قبل المسيس، وقال الشافعي‏:‏ يجب تقديمه على المسيس، لكن لا يستانف إن مسّ في حال الإطعام‏.‏ وجعل الأطعام‏.‏ وجعل الحق جلّ جلاله كفارة الظهار مُرتّبة، فلا ينتقل عن الأول حتى يعجز عنه، ومثلها كفارة القتل والتمتُّع، وقد نظم بعضهم أنواع الكفارات، ما فيه الترتيب وما فيه التخيير، فقال‏:‏

خيِّرْ بصوم ثم صيد وأذى *** وقل لكل خصلةٍ يا حبذا

ورتّب الظهار والتمتعا *** والقتل ثم في اليمين اجتمعا

‏{‏ذلك لتؤمنوا‏}‏ الإشارة إلى ما مرّ من البيان والتعليم للأحكام، ومحله رفع أو نصب، أي‏:‏ ذلك واقع، أو فصّلنا ذلك لتؤمنوا ‏{‏بالله ورسولِه‏}‏ وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم، وترفُضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم، ‏{‏وتلك‏}‏ أي‏:‏ الأحكام التي وصفنا في الظِهار والكفارة، ‏{‏حدودُ الله‏}‏ التي لا يجوز تعدّيها، ‏{‏وللكافرين‏}‏ أي‏:‏ الذين لا يعملون بها ‏{‏عذابٌ أليم‏}‏ عبّر عنه بالكفر تغليظاً على طريق‏:‏

‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ الذين يباعدون من أنفسهم، فيُحرِّمون عليها التمتُّع بما أحلّ الله من الطيبات، تضييقاً وتشديداً عليها، مفْرطين في ذلك، محتجين لذلك بأنهم كانوا في بطن الشهوات، فقد ملكتهم ملك الأم لولدها، قال تعالى‏:‏ «ما هن أمهاتِهم إنْ أُمهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم، وإنهم ليقولون مُنكراً من القول وزوراً» حيث حرّموا ما أحلّ الله، والمراد بذلك الإفراط المؤدي إلى التلف‏.‏ قال القشيري‏:‏ لأنّ النفس مطية الروح، فلا تسلك طريق السير إلاّ بها، وهي مددها ومعونتها، كما قال عليه السلام‏:‏ «إنّ لنفسك عليك حقاً» فلا بد للروح من مسامحة النفس ومداراتها في بضع الأوقات، لتميل النفس إلى تصرفها وحكمها فيها، وإلاّ ضعفت وكَلَّت عن موافقتها، فتنقطع الروح عن السلوك إلى الله‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يكن أحدكم كالمنبت، لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى» ‏{‏وإن الله لعفو غفور‏}‏ لمَن وقع له شيء من هذا ورجع‏.‏

والذين يُظاهرون من نسائهم، يُباعدون من أنفسهم، ثم يعودون إلى الترفُّق بها والاستمتاع بما أحلّ الله لها، فكفارته تحرير رقبةً مِن ملك الشهوة، فلا يتناول شيئاً من المباحات الطيبة، إلاّ بنية التقرُّب إلى الله والشكر، لا بنية مجرد الاستمتاع، ولا يتناول من الشهوات التي شرهت إليها النفس، وحرصت على تحصيلها قبل حصولها، شيئاً قط، فإن لم يقدر عليها على هذا النمط، فعليه صيام شهرين أو أكثر، مجاهدةً ورياضةً، حتى تقف على حد الضرورة، فإن لم يتسطع فإطعام ستين مسكيناً أو أكثر، بكل ما يدخل عليه من الحظوظ‏.‏ وقال القشيري‏:‏ وإن لم يقدر على تحرير رقبته على هذا الارتباط؛ فيجب على الروح أن تصوم شهرين متتابين، يعني يمسك نفسَه عن الالتفات إلى الكونين على الدوام والاستمرار، من غير تخلُّل التفات، وإن لم يتمكن مِن قطع هذا الالتفات، لبقية من بقايا أنانيته، فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً من مساكين القوى الروحانية، المستهلك لسلطنة النفس وصفاتها، ليقيمهم على التخلُّق بالأخلاق الإلهية، والتحقق بالصفات الروحانية، ه‏.‏ ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله الإيمان الكامل، وتلك حدود الله لا يجوز تعدِّيها بالأهوية والبدع، وللكافرين لهذه الحِكم عذاب البُعد ونار القطيعة، المؤلم للروح والقلب، بغم الحجاب وسوء الحساب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏6‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُحادون اللّهَ ورسولَه‏}‏ أي‏:‏ يُعادونهما ويُشاقونهما؛ فإنَّ كُلاَّ من المتعادين في عدوةٍ وشِقٍّ غير الآخر، وكذلك يكون كُلُّ واحدٍ منهما في حدّ غير حدّ الآخر، غير أنَّ لذكر المُحادَّة هنا لمّا ذكر حدود الله مِن حسن الموقع ما لا غاية وراءه‏.‏ ثم أخبر عنهم فقال‏:‏ ‏{‏كُبِتُوا‏}‏ أي‏:‏ أُخذوا وأُهلكوا، أو‏:‏ لُعنوا ‏{‏كما كُبِتَ الذين من قبلهم‏}‏ من كُفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم السلام‏.‏ وقال القشيري‏:‏ يُحادّون‏:‏ يُخالفون أمر الله، ويتركون طاعة رسول الله، أذِلُّوا وأُخْزوا كما أُذِلَّ مَنْ قبلهم من الكفار والعصاة‏.‏ نزلت في المستهزئين يوم ا لخندق، إذ الله أجرى سُنته بالانتقام من أهل الإجرام، ومَن ضيَّعَ لرسول الله سُنةً واحدة في دينه ببدعة انخرط في سلك هذا الخزي، ووقع في هذا الذُّل‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الآية نزلت في المنافقين واليهود، وكانوا يتربصون بالرسول والمؤمنين الدوائر، ويتمنون فيهم المكروه، ويتناجون بذلك‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وقد أنزلنا آياتٍ بيناتٍ‏}‏‏:‏ حال من ضمير «كُبتوا» أي‏:‏ كُبتوا بمحادتهم، والحال أنَّا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسولَه، ممن قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم، أو‏:‏ آيات على صدق الرسول وصحة ما جاء به، ‏{‏وللكافرين‏}‏ بهذه الآيات، أو‏:‏ بكل ما يجب الإيمان به، فيدخل فيه تلك الآيات دخولاً أوليّاً، ‏{‏عذابٌ مهين‏}‏ يذهب بعزِّهم وكِبْرهم‏.‏

واذكر ‏{‏يومَ يبعثهم اللهُ جميعاً‏}‏ أو‏:‏ لهم ذلك العذاب ‏{‏يومَ يبعثهم اللهُ جميعاً‏}‏ أي‏:‏ لا يترك أحداً منهم، أو مجتمعين في حال واحد وصعيدٍ واحد، ‏{‏فيُنَبئهم بما عمِلوا‏}‏ من القبائح، تخجيلاً لهم، وتشهيراً لحالهم، وتشديداً لعذابهم، فيتمنون حينئذ المسارعة إلى النار، لِما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد، ‏{‏أحصاه اللهُ‏}‏ أحاط به عدداً، لم يفته منه شيء، والجملة استئناف بياني، كأنه قيل‏:‏ كيف ينبئهم بما عملوا، وهي أعراض مُنقضية متلاشية، فقيل‏:‏ ‏{‏أحصاه اللهُ ونَسًوه‏}‏ أي‏:‏ قد نسوه لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه وإنما تحفظ معظّمات الأمور‏.‏ وهو حال أيضاً‏.‏ ‏{‏واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ‏}‏ لا يغيب عنه شيء‏.‏ والجملة اعتراض تذييلي، مقرِّرة لإحصائه تعالى‏.‏

ثم استشهد على شمول شهادته تعالى، فقال‏:‏ ‏{‏ألم تَرَ أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏، ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 225‏]‏ أي‏:‏ ألم تعلم علماً مزاحماً للمشاهدة أنَّ الله يعلم ما استقر في السماوات وما في الأرض من الموجودات، ‏{‏ما يكونُ من نجْوَى ثلاثةٍ‏}‏‏:‏ استئناف مُقَرِّر لِما قبله مِن سعة علمه تعالى، ومُبَيّن لكيفيته، و«كان» تامة، أي‏:‏ ما يقع من تناجي ثلاثة نفر في مساررتهم ‏{‏إِلاَّ هو‏}‏ أي‏:‏ الله تعالى ‏{‏رابعُهم‏}‏ أي‏:‏ جاعلهم أربعة من حيث إنه تعالى يُشاركهم في الاطلاع عليها، ‏{‏ولا خمسةٍ‏}‏ أي‏:‏ ولا نجوى خمسة ‏{‏إِلاّ هو سادسُهم ولا أدنَى‏}‏ ولا أقل ‏{‏من ذلك ولا أكثرَ إِلاّ هو معهم‏}‏ يعلم ما يتناجون به، فلا يخفى عليهم ما هم فيه‏.‏

وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة، فإنّ الآية نزلت في المنافقين، وكانوا يتناجون مغايظةً للمؤمنين على هذين العددين، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عددهم ولا أكثر، إلا والله معهم، يسمع ما يقولون، ولأنّ أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب، وأول عَدَدهم الاثنان فصاعداً، إلى خمسة، إلى ستة، إلى ما اقتضته الحال، فذكر عزَ وجل الثلاثة والخمسة، وقال‏:‏ ‏{‏ولا أدنى من ذلك‏}‏ فدلّ على الاثنين والأربعة، وقال‏:‏ ‏{‏ولا أكثرَ‏}‏ فدلّ على ما فوق هذا العدد‏.‏ قاله النسفي‏.‏

‏{‏ثم يُنبِّئُهم‏}‏ يُخبرهم ‏{‏بما عَمِلوا‏}‏ تفضيحاً وإظهاراً لِما يوجب عذابهم‏.‏ ‏{‏إِنّ الله بكل شيء عليم‏}‏ لأنَّ نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل سواء، فلا يخلو منه زمان ولا مكان‏.‏

الإشارة‏:‏ في الحديث‏:‏ «مَن عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب» فمَن حادّ أولياءَ الله فقد حادّ الله ورسولَه، فيُكبت كما كُبِتَ مَن قبله ممن اشتغل بإذايتهم، وقد أنزلنا آيات واضحات على ثبوت الولاية في كل زمان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، وللكافرين الجاحدين لخصوصيتهم عذاب مهين، وهو البُعد والطرد وغم الحجاب وسوء الحساب‏.‏ يوم يبعثهم الله جميعاً، أي‏:‏ أهل الإنكار، فيُنبئهم بما عملوا من الانتقاد والإذاية، أحصاه اللّهُ ونسوه، لأنهم يعتقدون أنهم في ذلك على صواب؛ لجهلهم المُرَكَّب، فإذا تناجوا في شأنهم بما يسؤوهم فيقال في حقهم‏:‏ ‏{‏ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلاّ هو رابعهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قال القشيري‏:‏ ‏{‏إنّ الذين يُحادون الله ورسولَه‏}‏، يعني‏:‏ يُحادون مظاهر الله، وهم الأولياء المحققون، العارفون القائمون بأسرار الحقائق، ومظاهر رسول الله، وهم العلماء العاملون، القائمون بأحكام الشرائع، كُبتوا‏:‏ أُفحموا بالحُجج وإظهار البراهين من الكرامات الظاهرة، وخرق العادات الباهرة، أو نشر العلوم الشريعة، ونشر الأحكام الفرعية، وقد أنزلنا بصحة ولايتهم، وقوة وراثتهم، علامات ظاهرة، ودلالات زاهرة، من المشاهدات والمعاينات، أو الحجج القاطعة والبراهين الساطعة، ومن ستر أنوار ولايتهم، وآثارَ وراثتهم، بساتر إنكاره، فله عذاب القطيعة والفضيحة مع إهانة من غير إبانة ه‏.‏ ببعض البيان‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا هو معهم‏}‏ المعية بالعلم عموم، وبالقرب خصوص، والقرب بالعلم عموم، وبظهور التجلِّي خصوص، وذلك دنو ‏{‏دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى‏}‏، فإذا ارتفع الأين والبين والمكان والجهات، واتصل أنوارُ كشوف الذات والصفات بالعارف، فذلك حقيقة المعية، إذ هو سبحانه مُنزّه عن الانفصال والاتصال بالحدث‏.‏

ولو ترى أهل النجوى، الذين مجالستهم لله وفي الله، لترَى من وجوههم أنوار المعية، أين أنت من العلم الظاهر، الذي يدل على الرسوم‏.‏ ألم تعلم أنَّ علمه تعالى أزلي، وبالعلم يتجلّى للمعلومات، فالصفات شاملة على الأفعال، ظاهرة من مشاهد الملعومات، فإذا كان الذرات لا تخلو من قرب الصفات، كيف تخلو عن قرب الذات الأرواحُ العالية المقدّسة العاشقة المستغرقة في بحر وُجوده، لا تظن في حقي أني جاهل بأنّ القديم لا يكون محل للحوادث، فإنه حديث المُحدَثين، أعبرْ من هذا البحر حتى لا تجد الحدثان ولا الإنسان في مشاهدة الرحمان ه‏.‏

قلت‏:‏ وحاصل كلامه‏:‏ أنَّ المعيّة بالعلم تستلزم المعية بالذات، إذا الصفة لا تفارق الموصوف، وإنَّ بحر الذات اللطيف محيط بالكثيف منه من غير انفصال، وأما كون القديم لا يكون محل الحوادث فصحيح، لكن الحوادث عندنا فانية متلاشية، إذ ما ثَمَّ إلا تلوينات الخمرة الأزلية، وقد قال الجنيد‏:‏ «إذا قرن الحادث بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم»، فاعبُرْ عن عالَم الحس إلى بحر المعاني، حتى لا تجد إلاَّ القديم الأزلي، فافهم وسلِّم‏.‏

إن لم ترَ الهلالَ فسَلِّم *** لأناس رأوه بالأبصار

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم تَرَ إِلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لنما نُهوا عنه‏}‏ نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون فيما بينهم، ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين، يريدون أن يغيظوهم، فنهاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فعادوا لمثل فعلهم‏.‏ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والهمزة للتعجيب مِن حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرير عودهم وتجدُّده، واستحضار صورته العجيبة‏.‏ وفي السِّيَر‏:‏ أنه أمر بإخراجهم من المسجد، فأُخرجوا مجرورين، كما في الاكتفاء‏.‏ ‏{‏ويتناجون بالإِثم والعُدوان‏}‏ أي‏:‏ بما هو إثم في نفسه وعدوان للمؤمنين، ‏{‏ومعصيتِ الرسول‏}‏ أي‏:‏ وتواصٍ بمعصية الرسول‏.‏ وذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهيْن إليه عليه السّلام لزيادة تشنُّعهم واستعظام معصيتهم، ‏{‏وإِذا جاؤوا حَيَّوكَ‏}‏ أي‏:‏ سلَّموا عليك ‏{‏بما لم يُحَيِّك به اللهُ‏}‏ بما لا يُسلم عليك الله تعالى، فكانوا يقولون في تحيتهم‏:‏ السام عليك يا محمد‏.‏ والسام‏:‏ الموت، والله تعالى يقول في سلامه على رسوله‏:‏ ‏{‏وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 29‏]‏ ‏{‏وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الصفات‏:‏ 181‏]‏‏.‏ ‏{‏ويقولون في أنفسِهم‏}‏ أي‏:‏ فيما بينهم، أو في ضمائرهم، ‏{‏لولا يُعذبُنا اللّهُ بما نقول‏}‏ هلاّ يُعذبنا الله بذلك، فلو كان نبيّاً لعاقبنا بالهلاك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏حَسْبُهم‏}‏ عذاباً ‏{‏جهنمُ يصلونها‏}‏ يدخلونها فيحترقون فيها، ‏{‏فبئس المصيرُ‏}‏ المرجع جهنم‏.‏

الإشارة‏:‏ ألم ترَ إلى الذين نُهوا عن الوقوع في أهل الخصوصية، والتناجي بما يسؤوهم ثم يعودون لما نُهوا عنه، ويتناجون بالإثم والعدوان، وما فيه فساد البين وتشتيت القلوب، ومعصية الرسول بمخالفة سنته، وإذا جاؤوك أيها العارف، الخليفة للرسول، حيَّوك بما لم يُحيك به الله، أي‏:‏ خاطبوك بما لم يأمر الله أن تُخاطَب به من التعظيم، ويقولون في أنفسهم، لولا يُعذبنا الله بن نفعل من تصغيرهم، حسبهم نار القطيعة والبُعد، مُخلّدون فيها، فبئس المصير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إِذا تناجيتم‏}‏ في أنديتكم وفي خلواتكم ‏{‏فلا تتناجَوا بالإِثم والعدوانِ ومعصيتِ الرسول‏}‏ كفعل هؤلاء المنافقين، ‏{‏وتناجَوا بالبِرِّ والتقوى‏}‏ أي‏:‏ بما تضمن خير المؤمنين، والاتقاء عن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، أو‏:‏ بأداء الفرائض وترك المعاصي، ‏{‏واتقوا اللهّ الذي إِليه تحشرون‏}‏ فيُجازيكم بما تتناجون به من خير أو شر، ‏{‏إِنما النجوى‏}‏ المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان، ‏{‏من الشيطان‏}‏ لا من غيره، فإنه المزيِّن لها والحامل عليها ‏{‏لِيَحْزُنَ‏}‏ بها ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ بتوهيمه أنها في نكبةٍ أصابتهم، أو أصابت إخوانهم، او في الاشتغال بثلْمهم وتنقيصهم‏.‏ ولهذا نهى الشارع أن يتناجى اثنان دون الثالث، لئلا يتوهم أنهم يتكلمون فهي‏.‏ قال تعالى ‏{‏وليس بضارَّهم‏}‏ أن يتناجى اثنان دون الثالث، لئلا يتوهم أنهم يتكلمون فهي‏.‏ قال تعالى ‏{‏وليس بضارِّهم‏}‏ أي‏:‏ وليس الشيطان أو الحزن بضارهم ‏{‏شيئاً‏}‏ من الأشياء، أو شيئاً من الضرر ‏{‏إِلاّ بإِذن الله‏}‏ بمشيئته، ‏{‏وعلى الله فلتوكل المؤمنون‏}‏ فلا تُبالوا بنجواهم، فإنَّ الله تعالى يعصمهم من شره وضرره، فيلكلوا أمرَهم إلى الله، ويتعوّذوا من شر الشيطان، فإنَّ كيده ضعيف‏.‏

قال القشيري‏:‏ إنما قَبُحَ التناجي منهم، وعَظُمَ خطره؛ لأنه تضمَّن فسادَ ذات البيْن، وخيرُ الأمور ما عاد بإصلاح ذات البيْن، وبعكسه يكون الأمر بالضد، يعني‏:‏ فيعظم خطر التناجي بالبر والتقوى، وبما يقرب إلى الله‏.‏ ثم قال‏:‏ إذا كانت المشاهدة غالبةً، والقلوب حاضرةً، والتوكل صحيحاً، والنظرُ في موضعه صائباً، فلا تأثير لهذه الحالات، أي‏:‏ لحزن الشيطان وتوهيمه وإضراره، وإنما هذا للضعفاء‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم مع قلوبكم وأسراركم فلا تتناجوا بالإثم، وهو تدبير أمر الدنيا وشؤونها، بل غيبوا عنها يأتيكم نصيبكم منها، مع الفوز بالحضور مع الله، ولا تتناجوا بالعدوان، وهو شغل القلب بأمر الخلق، دفعاً وجلباً، ضرّاً ونفعاً، إذ ليس بيدهم شيء، ومعصية الرسول، وهو إضمار ترك السُنة، أو مخالفة أمر المشايخ، وتَناجَوا بالبر، وهو الفكرة في عظمة الله، والتقوى، وهو الغيبة عما سوى الله بِحَصر القلب عن الخروج من الحضرة، واتقوا الله بترك ما سواه، الذي إليه تُحشرون فيُدخلكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏.‏ إنما النجوى، أي‏:‏ الفكرة في الدنيا، من الشيطان؛ لأنّ له بيتاً في القلب لجهة الشمال، إذا ذكر الله انخنس، وإذا غفل القلب وسوس بهموم الدنيا، ليَحْزُن الذين آمنوا؛ ليكدر عليهم وقتهم، وليس بضارِّهم شيئاً إذا قَوِيَ نور الإيمان إلاّ بإذن الله ومشيئته، فلا تسليط له من نفسه‏.‏ وليس بضارِّهم شيئاً إذا قَوِيَ نور الإيمان إلاّ بإذن الله ومشيئته، فلا تسليط له من نفسه‏.‏ وعلى الله فليتوكل المؤمنون، فإذا صحّ توكلهم حَفِظَهم منه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 99‏]‏، وقد تقدّم عن القشيري‏:‏ أنّ الأقوياء لا يلحقهم شيء من حزنه وإضراره‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذينَ آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏ أي‏:‏ توسَعوا فيه، وقيل‏:‏ «في المجلس» متعلق بقيل، أي‏:‏ إذا قيل لكم في المجلس تفسّحوا فافسحوا، والمراد‏:‏ مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتضامُّون فيه تنافساً فيه صلى الله عليه وسلم وحرصاً على استماع كلامه‏.‏ وقرأ عاصم «مجالس» أي‏:‏ في مجالس الرسول التي تجلسونها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ مجالس القتال، وهي مراكز الغزاة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏ قيل‏:‏ كان الرجل يأتي الصف، فيقول‏:‏ تفَفسَّحوا، فيأبَوا، لحرصهم‏.‏ والأول أنسب بذكر النجوى أولاً وثانياً‏.‏ فإن امتثلتم وتفسحتم ‏{‏يَفْسَحِ اللهُ لكم‏}‏ في كل ما تريدون التفسُّح فيه، من الرزق، والدار، والصدر، والقبر، والجنة، والعلم، والمعرفة‏.‏ ‏{‏وإِذا قيل انشُزُوا‏}‏ أي‏:‏ ارتفعوا من مجلسه، وانهضوا للصلاة، أو الجهاد، أو غيرهما من أعمال البر، أو‏:‏ انشزوا للتوسعة في المجلس على المقبِلين، ‏{‏فانشُزُوا‏}‏ أي‏:‏ فانهضوا ولا تُبطِئوا، وقيل‏:‏ كانوا يُطيلون الجلوس معه صلى الله عليه وسلم وربما جلس قوم حتى يؤمروا بالقيام، فأُمروا بالقيام وعدم التثقيل‏.‏ وفي مضارع «نشز» لغتان الضم والكسر، والأمر تابع له‏.‏

‏{‏يَرْفَعِ اللّهُ الذين آمنوا منكم‏}‏ بامتثال أوامره وأَمْرِ رسوله، بالنصر وحسن الذكر في الدنيا، والإيواء إلى غرف الجنان في الآخرة‏.‏ ‏{‏و‏}‏ يرفع ‏{‏الذين أُوتوا العلمَ‏}‏ خصوصاً ‏{‏درجاتٍ‏}‏ عالية، بما جمعوا من أثريْ العلم والعمل، فإنّ العلم مع علو رتبته يزيد مع العمل رفعةً لا يُدرك شأوها، بخلاف العلم العاري عن العمل، وإن كان له شرف في الجملة، ولذلك يُقتدى بالعالِم في أفعاله فقط‏.‏ وفي هذه الدرجات قولان، أحدهما‏:‏ في الدنيا، في الرتبة والشرف والتعظيم، والآخر‏:‏ في الآخرة، وهو أرجح‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ «يرفع العالم فوق المؤمن سبعمائة درجة، بين كل درجة كما بين السماء والأرض»، ومثل هذا لا يُقال بالرأي‏.‏ وتقدير الآية‏:‏ يرفع الله الذي آمنوا منكم درجةً، والذين أُوتوا العلم درجات، وقيل‏:‏ «درجات» يرجع لهما معاً، وتفضيل أهل العلم يؤخذ من خارج‏.‏

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه كان إذا قرأها قال‏:‏ «يا أيها الناي افهموا هذه الآية، ولترغبكم في العلم»‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدرعلى سائر الكواكب»، وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عبادة العالم يوماً واحداً تعدل عبادة العابد أربعين سنة» يعني الجاهل، وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يشفعُ يومَ القيامة ثلاثةٌ‏:‏ الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء»، فأَعْظِم بمرتبةٍ هي واسطة بين النبوة والشهادة، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشمل الحديث العلماء بالله وبأحكام الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ خُيّر سليمان عليه السلام بين العلم والمال والمُلك، فاخترا العلم، فأعطى المالَ والمُلكَ معه‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أوحى اللّهُ إلى إبراهيم عليه السلام‏:‏ يا إبراهيم إني عليم، أُحب كل عليم» وعن بعض الحكماء‏:‏ ليت شعري أيّ شيءٍ أدرك مَن فاته العلم‏؟‏ وأيّ شيءٍ فات مَن أدرك العلم‏؟‏ والعلوم أنواع، وشرفها باعتبار المعلوم، فأفضل العلوم‏:‏ العلم بالذات العلية، على نعت الكشف والعيان، ثم العلم بالصفات والأسماء، ثم العلم بالأحكام، ثم العلم بالآلات الموصلة إليه‏.‏

‏{‏واللهُ بما تعملون خبير‏}‏ تهديد لمَن لم يمتثل الأمر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قيل في مجلس العِلم يُقال في مجلس الوعظ، بل هو عينه؛ لأنه العلم النافع، فإذا قَدِمَ واحدٌ من الفقراء أو غيرهم لمجلس الشيخ، فوجد فُرجة جلس فيها، وإلاّ جلس خلف الحلقة، ولو مع النعال، فلا يُزاحم ولا يُقم أحداً ليجلس، إلاّ أن يأمره الشيخ بالتقدُّم لمنفعة فيه في إعانة الشيخ، فليتقدّم برفق ولطافة وأدب‏.‏ وإذا قيل لأهل المجلس‏:‏ تفسَّحوا فليتفسَّحوا، يفسح الله لهم في العلم والعرفان، والأخلاق والوجدان، والمقامات، وسائر ما يطلب التوسُّع فيه‏.‏ وإذا قيل‏:‏ انشُزُوا لصلاة أو خدمة أو ملاقاة، فانشُزُوا، يرفع الله الذين آمنوا منكم، وليس فيهم أهلية لصريح المعرفة درجةً عن العامة، حيث صَحِبُوا العارفين للتبرُّك والحُرمة‏.‏ ويرفع الذين أُتوا العلم بالذات، على سبيل الكشف والعيان، درجات، سبعمائة درجة، على العالم صاحب الدليل والبرهان، فيرفع العالِم فوق الجاهل سبعمائة درجة، ويرفع العارف فوق العالِم سبعمائة‏.‏ فالناس أربع طبقات‏:‏ الطبعة العيا الأولياء والعارفون بالله، ثم العلماء، ثم الصالحون، ثم عامة المؤمنين‏.‏ والمراد بالأولياء مَن منَّ اللّهُ عليه بملاقاة شيخ التربية، حتى دخل مقام الفناء والبقاء، زاح عنه حجاب الكائنات، وأفضى إلى شهود المكوِّن، فهؤلاء هم المقرَّبون الصدِّيقون، والمراد بالعلماء العاملون المخلِصون‏.‏

قال في «لطائف المنن»‏:‏ وحيثما وقع العِلم في كتاب الله عزّ وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما المراد به النافع، المخمِد للهوى، القامع للنفس، الذي تكتنفه الخشية، وتكون معه الإنابة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُاْ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏، فلم يجعل عِلم مَن لم يخشَ من العلماء علماً، فشاهد العلم الذي هو مطلوب الله‏:‏ الخشية، وشاهد الخشية‏:‏ موافقة الأمر، وأمّا عِلم مَن يكوم معه الرغبة في الدنيا، والتملُّق لأربابها، وصرف الهمة لاكتسابها، والجمع والإدخار، والمباهاة والاستكثار، وطول الأمل ونسيان الآخرة، فما أبعد مَن هذا وصفه من أن يكون من ورثة الأنبياء عليهم السلام، وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلاّ بالصفة التي كان بها عند الموروث، ومثَلُ من هذه الأوصاف وصفُه كمَثَل الشمعة تُشيء على غيرها وهي تحرق نفسها، جعل الله عِلمَ مَن هذا وصفه حجة عليه، وسبباً في تكثير العقوبة لديه، ولا يغرنك أن يكون به انتفاع للبادي والحاضر، فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إنَّ الله يؤيدُ هذا الدين بالرجل الفاجر»، ومثَلُ مَن تعلّم العلم لاكتساب الدنيا، وتحصيل الرفعة بها، كمثل مَن رفع العذرة بملعقة من ياقوت، فما أشرف الوسيلة، وما أخس المتوسل إليه‏!‏ ومثَلُ مَن قطع الأوقات في طلب العلم، فمكث أربعين سنة يتعلّم العلم ولا يعمل به، كمثل مَن قعد هذه المدة يتطهّر ويُجدد الطهارة، ولم يُصلِّ صلاةً واحدة، إذ مقصود العلم العمل، كما أنَّ المقصود بالطهارة وجود الصلاة، ولقد سأل رجلٌ الحسنَ البصري عن مسألة، فأفتاه فيها، فقال الرجل للحسن‏:‏ قد خالفك الفقهاءُ، فزجره الحسن، وقال‏:‏ ويحك، وهل رأيت فقيهاً، إنما الفقيه مَن فقه عن الله أمْرَه ونهيه‏.‏ وسمعتُ شيخنا أبا العباس رضي الله عنه يقول‏:‏ الفقيه مَن انفقأ الحجاب عن عينيْ قلبه، فشاهد ملكوت ربه‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

فالعلماء المخلِصون الذين عرفوا الله من طريق البرهان، تلي درجتهم درجةَ الأولياء الذين هم أهل الشهود والعيان، ثم الصالحون الأبرار، ثم عامة المؤمنين، ومَن قال خلاف هذا فهو جاهل بمرتبة الولاية، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عامة أهل الجنة البُله» وعِلِّيُون لذوي الألباب، وذووا الألباب هم أهل البصائر، الذين فتح الله بصيرتَهم، وتطهّرت سريرتهم بالمجاهدة والرياضة، حتى شاهدوا الحق وعرفوه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أولئك الذين هَدَاهُمُ الله وأولئك هُمْ أُوْلُو الألباب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 17، 18‏]‏، وراجع ما تقدّم في تفسيرها، وكل مَن كان محجوباً عن الله، يتسدل بغيره عليه، فهو من البُله، إلاّ أنّ صاحب الاستدلال أربع من المقلِّد، أي‏:‏ سَلِمَ من الوسواس، وإلاّ فالمقلِّد أحسن منه‏.‏

ولمّا تكلم في الإحياء على درجات التوحيد، قال‏:‏ «والدرجة العليا في ذلك للأنبياء، ثم للأوياء العارفين، ثم للعلماء الراسخين، ثم الصالحين»، فقدَّم الأولياء على العلماء‏.‏ وقال الأستاذ القشيري في أول رسالته‏:‏ فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضَّلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه‏.‏ ه‏.‏ سُئل ابن رشد- رحمه الله- عن قول الغزالي والقشيري بتفضيل الأولياء على العلماء، فقال‏:‏ أمّا تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الله؛ فقول الأستاذ أبي حامد متفق عليه، ولا يشك عاقل أنّ العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال أفضل من العارفين بالأحكام، بل العارفون بالله أفضل من أهل الأصول والفروع؛ لأنّ العلم يشرف بشرف المعلوم‏.‏ ثم أطال الكلام في الاستدلال على ذلك، فانظر‏.‏ ذكره في المعيار‏.‏

وقال بعضهم في تفضيل العارف على العالِم‏:‏ إنّ العارف فوق ما يقول، والعالِم دون ما يقول، يعني‏:‏ أن العارف إذا تكلم في مقام من مقامات اليقين، كان قَدَمُه فوق ما وصف، لأنه يسلكه دوماً ثم يصفه، والعالم إنما يصفه بالنعت، وأيضاً‏:‏ العالِم يدلك على العمل، والعارف يُخرجك عن شهود العمل، العالِم يحملك حِمل التكليف، والعارف يروحك بشهود التعريف، العالِم يَدُلك على علم الرسوم، والعارف يُعرّفك بذات الحي القيوم، العالِمَ يَدُلك على الأسباب، والعارف يدلك على مُسبِّب الأسباب، العالِم يَدُلك على شهود الوسائط، والعارف يَدُلك على محرك الوسائط، العالِم يُحذّرك من الوقوف مع الأغيار، والعارف يُحذّرك من الوقوف مع الأنوار، ويزج بك في حضرة الأسرار، العالِم يُحذّرك من الشرك الجلي، والعارف يُخلِّصك من الشرك الخفي، إلى غير من الفروقات بين العارف والعالم‏.‏

ومن اصطلاحات الصوفية، أنَّ العالِم بالأحكام يسمى عالماً، والعالِم بالذات عياناً وكشفاً يسمى عارفاً، كما في القوت‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إِذا ناجيتم الرسولَ‏}‏ أي‏:‏ إذا أردتم مناجاته في بعض شؤونكم المهمة، ‏{‏فقدِّموا بين يدي نجواكم‏}‏ أي‏:‏ قبل نجواكم ‏{‏صدقة‏}‏ وهي استعارة ممن له يدان، كقول عمر رضي الله عنه‏:‏ «من أفضل ما أوتيت العرب الشِعر، يقدّمه الرجل أما حاجته، فيستمطر به الكريم، ويستنزل به اللئيم» يريد‏:‏ قبل حاجته‏.‏ وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتفاع الفقراء، والزجر عن الإفراط في مناجاته وسؤاله عليه الصلاة والسلام، والتمييز بين المخلِص والمنافق، وبين مُحب الآخرة ومُحب الدنيا، وهل الأمر للندب، أو للوجوب لكنه نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏أأشفقتم‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏؟‏ وعن عليّ رضي الله عنه‏:‏ «إنَّ في كتاب الله آية ما عمل بها أحدٌ غيري، كان لي دينار فصرّفته فكنت إذا ناجيته صلى الله عليه وسلم تصدّقت به»‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ «أنا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين»، قال رضي الله عنه‏:‏ فَهِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنّ هذه العبادة قد شقّت على الناس، فقال‏:‏ «يا عليّ كم ترى حدّ هذه الصدقة‏؟‏ أتراه ديناراً‏؟‏» قلت‏:‏ لا، قال‏:‏ «فنصف دينار» ‏؟‏ قلت‏:‏ لا، قال‏:‏ «فكم» ‏؟‏ قلت‏:‏ حبة من شعير، قال‏:‏ «إنك لزهيد» فأنزل الله الرخصة «‏.‏ قال الفخر‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ‏:‏» إنك لزهيد «معناه‏:‏ إنك قليل المال، فقدّرتَ على حسب حالك‏.‏ وفي رواية‏:‏» شعيرة من ذهب «، فقال‏:‏ إنك لزهيد»، أي‏:‏ مُصعِّر مقلِّل للدنيا‏.‏ قاله في القوت‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ التقديم للصدقة ‏{‏خير لكم‏}‏ في دينكم ‏{‏وأطهرُ‏}‏ لنفوسكم من رذيلة البُخل، ولأنَّ الصدقة طُهرة‏.‏ ‏{‏فإِن لم تجدوا‏}‏ ما تتصدقون به ‏{‏فإِنَّ الله غفور رحيم‏}‏ في ترخيص المناجاة من غير صدقة‏.‏ قيل‏:‏ كان ذلك عشر ليال، ثم نُسِخَ، وقيل‏:‏ ما كان إلاَّ ساعة من نهار‏.‏ وعن عليّ- كرّم الله وجهه- أنه قال‏:‏ سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن عشر مسائل، فأجابني عنها، ثم نزل نسخ الصدقة، قلت‏:‏ يا رسول الله؛ ما الوفاء‏؟‏ قال‏:‏ «التوحيد وشهادة أن لا إله إلاّ الله» قلت‏:‏ وما الفساد‏؟‏ قال‏:‏ «الكفر والشرك بالله» قلت‏:‏ وما الحق‏؟‏ قال‏:‏ «الإسلام، والقرآن والولاية إذا انتهات إليك» قلت‏:‏ وما الحيلة‏؟‏ قال‏:‏ «ترك الحيلة»، قلت‏:‏ وما عَلَيَّ‏؟‏ قال‏:‏ «طاعة الله وطاعة رسوله»، قلت‏:‏ وكيف أدعو الله تعالى‏؟‏ قال‏:‏ «بالصدق واليقين» قلت‏:‏ وماذا سأل الله‏؟‏ قال‏:‏ «العافية» قلت‏:‏ وما أصنع لنجاة نفسي‏؟‏ قال‏:‏

«كلْ حلالاً، وقل صدقاً» قلت‏:‏ وما السرور‏؟‏ قال‏:‏ «الجنة» قلت‏:‏ وما الراحة‏؟‏ قال‏:‏ «لقاء الله» فلما فرغت منها نزل نسخ الصدقة‏.‏

‏{‏أأشفقتم أن تُقَدِّموا بين يَدَيْ نجواكم صدقاتٍ‏}‏ أي‏:‏ أَخِفْتُم الفقرَ مِن تقديم الصدقات، أو‏:‏ أَخِفْتُم من هذا الأمر لِما فيه من الإنفاق الذي تكرهه النفوس، ‏{‏فإِذ لم تفعلوا‏}‏ ما أُمرتم به وشقّ عليكم، ‏{‏وتاب اللهُ عليكم‏}‏ أي‏:‏ خفّف عنكم، وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة، كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب عنه، ‏{‏فأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاة‏}‏ أي‏:‏ فإذا فرَّطتم فيما أُمرتم به من تقديم الصدقات، فتداركوه بالمثابرة على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ‏{‏وأطيعوا اللهَ ورسولَه‏}‏ في سائر الأوامر، فإنَّ القيام بها كالجابر لِما وقع في ذلك من التفريط، ‏{‏واللهُ خبير بما تعملون‏}‏ ظاهراً وباطناً، وهو وعدٌ ووعيد‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أردتم مناجاة المشايخ في زيارتكم، فقدِّموا بين يدي نجواكم صدقة، تُدفع للشيخ، أو لأهل داره، فإنها مفتاح لفيض المواهب، مثالها كالدلو، لا يمكن رفع الماء إلاَّ به، ذلك خير لكم، وأطهر لقلوبكم من رذيلة من البخل، فإن لم تجدوا شيئاً فإن الله غفور رحيم‏.‏ أأشفقتم أن تُقدِّموا بين يدي نجواكم صدقات؛ لِثَقَلِ ذلك على النفس‏؟‏ فإذ لم تفعلوا وزُرتم بلا صدقة، وقد تاب الله عليكم من هذا التفريط، فأقيموا صلاة القلوب، وهو التعظيم، ودوام العكوف في حضرة علاّم الغيوب، وآتوا زكاة أبدانكم، بإجهادها في خدمة المشايخ والإخوان، وأطيعوا الله ورسوله وخلفاءه فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه، ‏{‏والله خبير بما تعملون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 19‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏14‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏16‏)‏ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏18‏)‏ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِين تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم‏}‏ وهم اليهود، لقوله‏:‏ ‏{‏مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 60‏]‏‏.‏ والغضب في حقه تعالى‏:‏ إرادة الانتقام‏.‏ كان المنافقون يتولّون اليهود، وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، ففضحهم الله‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما هم منكم‏}‏ يا معشر المسلمين ‏{‏ولا منهم‏}‏ أي‏:‏ من اليهود، بل كانوا ‏{‏مُّذبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لآَ إِلَى هَؤُلأَءِ إِلَى هَؤُلآَءِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 143‏]‏‏.‏ ‏{‏ويحلفون على الكذب‏}‏ أي‏:‏ يقولون‏:‏ والله إنّ لمسلمون لا منافقون، ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ أنهم كاذبون منافقون، ‏{‏أعدَّ اللهُ لهم عذاباً شديداً‏}‏ نوعاً من العذاب متفاقماً، ‏{‏إِنهم ساء ما كانوا يعملون‏}‏ فيما مضى من الزمان، كانوا مُصرِّين على سوء العمل، وتمرّنوا عليه، أو‏:‏ هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة‏.‏

‏{‏اتخَذُوا أَيمانهم‏}‏ الكاذبة ‏{‏جُنَّةً‏}‏ وقايةً دون أموالهم ودمائهم، ‏{‏فصَدُّوا‏}‏ الناسَ في خلال أمنهم وسلامتهم، أو‏:‏ فصدُّوا بأنفسهم ‏{‏عن سبيل الله‏}‏ عن طاعته والإيمان به، ‏{‏فلهم عذابٌ مُهين‏}‏ يُهينهم ويُخزيهم، وأعدّ لهم العذاب المخزي لكفرهم وصدهم، كقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الَعَذَابِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏‏.‏ ‏{‏لن تُغني عنهم أموالُهم ولا أولادُهم من الله‏}‏ من عذاب الله ‏{‏شيئاً‏}‏ قليلاً من الإغناء، أي‏:‏ ما يخافون عليه من الأموال والأولاد فيحلفون لأجله، لا ينفعهم عند الله‏.‏ رُوي أنَّ رجلاً منهم قال‏:‏ لنُنصرنّ يوم القيامة بأموالنا وأنفسنا وأولادنا‏.‏ فنزلت‏.‏ ‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بما ذكر من القبائح ‏{‏أصحابُ النار‏}‏ ملازموها ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏‏.‏

‏{‏يومَ يبعثهم اللهُ جميعاً فيحلِفون له‏}‏ أي‏:‏ لله تعالى في الآخرة أنهم كانوا مُخلِصين غير منافقين، ‏{‏كما يحلفون لكم‏}‏ في الدنيا على ذلك، ‏{‏ويَحْسَبون أنهم‏}‏ في الدنيا ‏{‏على شيءٍ‏}‏ من النفع، أو‏:‏ يحسبون في الآخرة أنهم على شيءٍ من النفع، مِن جلب منفعة أو دفع مضرة، كما كانوا في الدنيا، حيث كانوا يدفعون بها عن أزواجهم وأموالهم، ‏{‏ألا إِنهم هم الكاذبون‏}‏ البالغون في الكذب إلى غايةٍ لا مطمح وراءها، حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علاّم الغيوب‏.‏

‏{‏استحوذَ عليهم الشيطانُ‏}‏ استولى عليهم ومَلَكَهم، ‏{‏فأنساهم ذكرَ الله‏}‏ بحيث لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم، ‏{‏أولئك حزبُ الشيطان‏}‏ أي‏:‏ جنوده وأتباعه، ‏{‏ألا إِنّ حزبَ الشيطان هم الخاسرون‏}‏ أي‏:‏ الموصوفون بالخسران الذي لا غياية وراءه، حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم، وأخذوا بدله العذاب الأليم، وفي تصدير الجمة بحرفي التنبيه والتحقيق، وإظهار الشيطان معاً في موضع الإضمارِ، وتوسيط ضمير الفصل، من فنون التأكيد ما لا يخفى‏.‏

الإشارة‏:‏ منافقون الصوفية هم الذين يُقرُّون أهلَ الظاهر وينصرونهم، ويُنكرون على أهل الباطن، فإذا لقوهم أظهروا لهم المودّة والوفاق، وادَّعوا أنهم منهم، فهم مذبذبون بين ذلك، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، ليسوا من أهل الظاهر المحض، ولا من أهل الباطن، لعدم تحققهم به، تجر الآية ذيلَها عليهم‏.‏

والعذاب المعدّ لهم غم الحجاب، وتخلُّفهم عن درجات المقربين‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذوا أَيمانهم جُنة‏}‏ قال القشيري‏:‏ مَن استتر بحُجة طاعته لأجل دنياه؛ انكشف لسهام التقدير من حيث لا يشعر، ثم لا دينُه يبقى، ولا دنياه تَسْلَم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لن تُغني عنهم أموالُهم ولا أولادهم من الله شيئاً‏}‏ الآية‏.‏ ه‏.‏ يوم يبعثهم الله جميعاً فيتحاشون إلى المقربين، ويحلفون بلسان حالهم‏:‏ أنهم كانوا منهم، كما يحلفون اليوم، ويظنون أنهم من أهل الباطن، ويحسبون أنهم على شيء، فيبدوا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وذلك لعدم صُحبتهم للعارفين المخلِصين، حصل لهم الغلظ، فوقفوا مع حُسبانهم الضال، ولو دامت صُحبتُهم لأهل التوحيد الخاص لتنبّهوا لغلطهم‏.‏ استحوذ عليهم الشيطانُ، فزيّن لهم الوقوفَ مع ما هم فيه، فأنساهم ذكرَ العيان، فكانوا من حزب الشيطان في الجملة، بالنسبة إلى مَن فوقهم‏.‏ قال شاة الكرماني‏:‏ علامة استحواذ الشيطان على العبد‏:‏ أن يشغله بعمارة ظاهره، من المأكل والملبس، ويشغل قلبه عن التفكُّر في آلاء الله ونعمائه، والقيام بشكرها، ويشغل لسانه عن ذكر ربه، بالكذب والغيبة والبهتان، ويشغل قلبه عن التفكُّر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ‏(‏20‏)‏ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنّ الذين يُحادون اللهَ ورسولَه‏}‏ أي‏:‏ يخالفونهما، ويجعلون بينهم وبينهما حدّاً، وهم حزب الشيطان المتقدم، ‏{‏أولئك في‏}‏ جملة ‏{‏الأذَلِّينَ‏}‏ لا ترى أحداً أذلّ منهم من الأولين والآخرين؛ لأنّ ذِلة أحد المتخاصمين على قدر عزة الآخر، وحيث كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة مَن يُحاده كذلك‏.‏ ‏{‏كتب اللهُ‏}‏ في اللوح وقضاه، وحيث جرى مجرى القسم أجيب بما يُجاب به، فقال‏:‏ ‏{‏لأغْلِبنَّ أنا ورسلي‏}‏ بالحجة والسيف، أو بأحدهما، وهو تعليل لِما قبله من كون مَن حاد الله في الأَذلِّين‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله قويٌّ‏}‏ على نُصرة أوليائه، ‏{‏عزيزٌ‏}‏ لا يمتنع عليه ما يريد‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن يُعادي أهلَ الله مخذول، عاقبته الذل في الدنيا والآخرة، ‏{‏كتب الله لأغْلِبَنَّ أنا ورسلي‏}‏ وخلفاؤهم من أولئك، ‏{‏وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏، إلاَّ مَن تعدّى منهم طورَه، كمَن تعرّض للظهور، وهو من أهل الباطن، فإنَّ القدرة تخدمه وتؤدبه؛ لأنّ الباطن لا ينقلب ظاهراً، ولا عكسه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏تجد‏}‏ إما متعدٍّ إلى اثنين، و«يوادون» الثاني، أو إلى واحد، بمعنى‏:‏ تصادف‏.‏ و«يوادون»‏:‏ حال من «قوم»، لتخصيصه بالصفة، أو صفة ثانية‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لا تجدُ‏}‏ أيها الرسول، أو‏:‏ كل مَن يسمع ‏{‏قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ‏}‏ أي‏:‏ خالفه ‏{‏ورسولَه‏}‏ أي‏:‏ عاده، أي‏:‏ لا تجد قوماً مؤمنين يُوالون المشركين، أي‏:‏ لا ينبغي أن يكون ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في الزجر عن موالاة أعداء الله، والاحتراز عن مخالطتهم ومعاشرتهم، وزاد ذلك الأمر تأكيداً وتشديداً بقوله‏:‏ ‏{‏ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إِخوانَهم أو عشيرتَهم‏}‏ أي‏:‏ لو كان مَن حادّ الله ورسلَه مِن أقرب الناس إليه، فإنَّ قضية الإيمان بالله تعالى أن يهجر كُلَّ مَن حادَ عنه بالمرة، وهذه حال أهل الصدق في الإيمان، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يُقاتلون آباءهم وأبناءهم وإخوانهم، فقد قَتَلَ أبو عبيدة بنُ الجراح أباه، وأتى برأسه للنبي صلى الله عليه وسلم، طاعةً لله ورسوله، وقال سعدُ بن أبي وقاص‏:‏ «كنتُ جاهداً على قتل أخي عُتبة، يوم بدر»‏.‏ وفيهم نزلت الآية‏.‏ والجمع باعتبار معنى «مَن» كما أنّ الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بما ذكر، وما فيه من معنى البُعد لرفع درجتهم في الفضل، وهو مبتدأ خبره‏:‏ ‏{‏كَتَبَ في قلوبهم الإِيمان‏}‏ أي‏:‏ أثبته فيها، وفيه دلالة على خروج الأعمال مِن مفهوم الإيمان، فإنَّ جزء الثابت في القلب ثابت، فيه، ولا شيء من أعمال الجوارح يثبتُ فيه‏.‏ ‏{‏وأيَّدهم‏}‏ أي‏:‏ قوَّاهم ‏{‏برُوحٍ منه‏}‏ أي‏:‏ من عنده تعالى، وهو نور اليقين، أو‏:‏ القرآن، أو‏:‏ النصر على العدو، ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي‏:‏ بروح من الإيمان، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به‏.‏

وعن الثوريِّ‏:‏ أنهم كانوا يَرَوْنَ أنها نزلت فيمن يصحب السلطان، أي‏:‏ ويُداهنه ولا ينصحه‏.‏ وقال سهل‏:‏ مَن صحّح إيمانه، وأخلص توحيده، لا يأنس بمبتدِع، ولا يُجالسه، ويظهر له من نفسه العداوة، ومَن داهن مبتدِعاً سلبه الله حلاوةَ السنن، ومَن أجابه لطلب عزِّ الدنيا، أو عَرضها، أذلَه الله بذلك العزّ، وأفقره بذلك الغنى، ومَن ضحك إلى مبتدع نزع الله نورَ الإيمان من قلبه، ومَن لم يصدّق فليجرب‏.‏ ه من النسفي‏.‏

ثم بيّن ما يتحفهم به في الآخرة، بعد بيان ما أكرمهم به في الدنيا، بقوله‏:‏ ‏{‏ويُدخلهم جناتٍ تجري مِن تحتها الإنهارُ خالدينَ فيها‏}‏ أبد الآبدين، ‏{‏رضي اللهُ عنهم‏}‏ لتوحيدهم الخالص وطاعتهم، ‏{‏ورَضُوا عنه‏}‏ لثوابه الجسيم في الآخرة، وبما قضى بهم في الدنيا، وهو بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلاً وآجلاً‏.‏

‏{‏أولئك حزبُ الله‏}‏ أنصار حقّه، ورعاة خلقه، وهو بيان لاختصاصهم به- عزّ وجل- وفي مقابلة اختصاص حزب الشيطان به‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إِنَّ حزبَ الله هم المفلحون‏}‏ بيان لاختصاصهم بالفوز بسعادة النشأتين، أي‏:‏ هم الباقون في النعيم المقيم، الفائزون بكل محبوب، الآمنون من كل مرهوب‏.‏

الإشارة‏:‏ لا تجد قوماً يريدون تحقيق الإيمان وخلوص العرفان يُوادون أهلَ الغفلة والعصيان، ولو كانوا من أقرب الناس إليهم، فالأخ الحقيقي والصاحب الخالص هو الذي يوافقك في النسبة، ويرافقك على الطاعة، ويُغيِّبك عن مواطن الغفلة، وأمَّا مَن يجرك إلى الغفلة فلا نسبة بينك وبينه، ولو كان أباً أو أمّاً أو أخاً شقيقاً‏.‏ وقد تقدّم الكلام على المسألة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الأَخِلآَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏‏.‏ قال القشيري‏:‏ مَن جَنَحَ إلى منحرفٍ في دينه، أو داهَنَ مبتدعاً في عقده، نَزَعَ اللهُ نورَ التوحيد من قلبه، فهو في حياته جانٍ على عقيدته، سيذوق قريباً وَبَال أمره، وإنَّ الأولياء كتب الله الإيمانَ في قلوبهم وأثبته‏.‏ ويقال‏:‏ جعل قلوبهم مُطرّزةً باسمه، وأعْزِزْ بحُلة أسرار قومٍ، طِرازُهم اسم «الله» عزّ وجل‏!‏‏!‏‏.‏ ه‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ ‏{‏لا تجد قوماً يؤمنون بالله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، أي‏:‏ آثروا اللّهَ على مَن دونه، وذلك بأنّ الله غرس أشجار التوحيد والمعرفة في قلوبهم، وتجلّى لأرواحهم بنفسه، فصار معنى حقيقة التجلّي منقوشاً في نفس أرواحهم وعقولهم‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأيَّدهم بروح منه‏}‏ قال في في الحاشية الفاسية‏:‏ هو مقام الشهود والتجلّي العياني، وهو حقيقة السر عند القوم، وهو علم يمتد ظله في الأرواح المواجَهة على حسب قابليتها واستعدادها، كما خصصتها المشيئة الإلهية، وهو التعليم الإلهامي للأولياء، والتنزُّل الوحيي للأنبياء عليهم السلام‏.‏ وعن ذلك الأمداد عُبر بالنفخ والإلقاء، وباعتبار حياة الروح به وقوتها سُمي رُوحاً، وإضافته إلى الله تعالى لأنه مقتبس من نور أوصافه‏.‏ ومثالٌ انفعالي عن علمه، وآثارٌ عن قدرته وكلامه‏.‏ وبالجملة فالعلم الحقيقي الذاتي لله، وكذا سائر صفاته، والعلم العرضي المثالي الانفعالي لمَن خصّ سبحانه من عباده، ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء، ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏ وكما أن الصُور المنطبعة في المرآة الصيقلة آثار ناشئة منها، وحادثة من مواجهة الصور الحسية، كذلك العلوم الممتدة في الأرواح المواجَهة، ظلال وآثار عارضة، منفعلة حادثة من حضرة الوجود الحقيقي، والعلم الذاتي، وهذا واضح لا شك فيه‏.‏ الله الموفق‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ وأيّدهم بتجلّي ذاته لأرواحهم، وما وفقهم في الصفات، بل أغرقهم في بحر الذات‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك حزبُ الله‏}‏ قال سهل‏:‏ الحزب‏:‏ الشيعة، وهم الأبدال‏:‏ وأرفع منهم الصدِّيقون‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ حزب الله، إذا نطقوا بهروا، وإن سكتوا ظهروا، وإن غابوا حضروا، إن ناموا سهروا‏.‏

ه‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ إنّ لله عباداً اتصالُهم به دائم، وأعينهم به قريرة أبداً، لا حياة لهم إلاّ به؛ لاتصال قلوبهم به، والنظر إليه بصفاء اليقين، فحياتهم بحياته موصولة، لا موت لهم ابداً، ولا صبر لهم عنه، لأنه قد سبى أرواحهم به، فعلّقها عنده، فثمَّ مأواها، قد غشي قلوبهم من النور ما أضاءت به، فأشرقت، ونما زيادتها على الجوارح، وصاروا في حِرز حماية، أولئك حزب الله‏.‏ وقال أبو عثمان‏:‏ حزب الله مَن يغضب في الله، ولا يأخذه فيه لومة لائم‏.‏ جعلنا الله ممن تحقّق بجميع هذه الأوصاف بمنّه وكرمه‏.‏ آمين‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏